يتناول المقال اتفاقية مجلس أوروبا للوقاية من العنف ضد المرأة والعنف المنزلي ومناهضتهما، والمعروفة باتفاقية اسطنبول، كمثال عن حقيقة وضع النساء، لا سيما المهاجرات واللاجئات في أوروبا، فهي أول اتفاقيّة أوروبية في هذا الشأن، أُطلقت عام 2011، لتكون أساساً قانونياً وحقوقياً يحمي الهاربات والهاربين من العنف القائم على الجنس، بما فيه تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى (الختان).
بموجب الاتّفاقية ينبغي على الدول الموقّعة تقديم الدعم للنساء من خلال: المشورة القانونية، الدعم النفسي، المشورة المالية، ودعم الوصول إلى السكن (إنشاء ملاجئ للنساء)، والتعليم والتدريب، والدعم في العثور على عمل. وتلزم الدول الأطراف بفرض عقوبات جنائية على العنف النفسي (المادة 33)، المطاردة (المادة 34)، العنف الجسدي (المادة 35)، العنف الجنسي بما في ذلك الاغتصاب (المادة 36)، الزواج القسري ( المادة 37)، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث (المادة 38)، الإجهاض والتعقيم القسريين (المادة 39)، والتحرش الجنسي (المادة 40).
بذلك وضعت الاتّفاقية قواعد أساسية هيكلية لمكافحة العنف ضد النساء على المستوى الدولي، وتقوم لجنة الخبراء المسؤولة GREVIO بمراقبة الالتزام بتطبيق الاتفاقية، وتقييم الوضع في كل من الدول التي صادقت عليها.
و رغم تعرّض حوالي 16 مليون امرأة من منطقة “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا” للعنف والعنف الجنسي، وفق مسح جرى عام 2018، إلا أن روسيا وأذربيجان لم توقعا على الاتفاقية، حيث لا تعترف الدولتان بالعنف كمشكلة على مستوى الدولة، وينظر المحافظون فيهما إلى العنف المنزلي كمسألة خاصة لا تؤثر على المجتمع، مستندين إلى القوالب النمطية الجنسانية المعنِّفة للنساء، وكلمة ” النوع الاجتماعي” بحدّ ذاتها من المشاكل التي تمنع روسيا من تبني الاتفاقية، لأنها “تهدد القيم المجتمعية” حسب قول القوى المحافظة التقليدية. ومع هذا، تكافح المنظمات والهيئات الحقوقية والنسويات الناشطات والنسويين الناشطين في البلدين من خلال المظاهرات والحملات لحصول النساء على حق الحماية من العنف.
لا يقتصر الأمر على الدولتين السابقتين، فالعديد من الدول الأوروبيّة وقّعت على الاتفاقية لكنّها لم تصادق عليها بعد، منها المملكة المتحدة، تهرّباً من التزاماتها تجاه قضايا النساء وحقوقهن، وخاصة اللاجئات والمهاجرات منهن. في حين وقعت دول أخرى وصادقت على الاتفاقية إنما مع تحفّظ على موادّ أو فقرات محدّدة، مثل ألمانيا التي صادقت على الاتفاقية في شباط (فبراير) 2018، مع التحفّظ على الفقرتين الثانية والثالثة من (المادة 59)، المتعلقة بوضع الإقامة للنساء اللاجئات والمهاجرات.
الفقرتين الثانية والثالثة من (المادة 59) من اتفاقية اسطنبول
تتحدّث الفقرة الثانية من المادة المذكورة عن ضرورة اتخاذ تدابير إجرائية لتعليق إجراءات الترحيل في حال وقوع عنف على امرأة ما، ترتبط إقامتها بإقامة زوجها وشريكها، أي النساء القادمات تحت بند “لم الشمل”. فالمرأة المتزوجة من رجل حصل على حق اللجوء تُمنح إقامة مرتبطة بإقامة الزوج، وتحصل عادة على جميع الحقوق التي تنطبق على إقامة زوجها اللاجئ، لكنها لا تُعتبَر لاجئة من الناحية القانونية، وفي حال انفصالها عن الزوج تفقد حق الإقامة، لذلك تطالب هذه الفقرة من المادة بالسماح للمرأة التقدّم بطلب تصريح إقامة مستقلّ.
أمّا الفقرة الثالثة منها، فتتعلّق بمنح المرأة تصريح إقامة قابل للتجديد إذا كانت تعيش في منزل للنساء (Frauenhaus)، أو كانت شاهدًا في قضية جنائية جاري التحقيق فيها. غير أنّ الحكومة الألمانية اكتفت بمنح وثيقة عدم ترحيل مؤقت ” “Duldung إلى حين انتهاء الإجراءات القضائية المتعلقة بالقضية، وهو ليس تصريح إقامة فعلي، بل مستند مؤقت يمكّن من البقاء في ألمانيا لفترة محدودة، لكن الالتزام بالمغادرة لا يزال قائماً.
تواجه كثير من النساء صعوبات جمّة في الحصول على الإقامة في ألمانيا نتيجة تحفظ الحكومة على الفقرتين السابقتين، وكثيرات منهن لا يحصلن على إقامة لجوء وإنما فقط إقامة حماية مؤقتة، الأمر الذي يضعهن أمام تحديات إضافية، بسبب تفاوت الحقوق المترتبة على كلّ من نوعي الاقامة. كما أنّ إيجاد مكان في ملاجئ حماية النساء في غاية الصعوبة لقلّة الأماكن الشاغرة، حيث تعج بالنساء الألمانيات المعنفات أيضاً.
فعاليات لنشر الوعي بين اللاجئات في ألمانيا حول اتفاقية اسطنبول
العديد من المنظمات النسوية في ألمانيا تضغط باتّجاه رفع الحكومة الاتحادية تحفّظاتها عن الاتفاقية، كمنظمة داميغرا DaMigra التي تعمل بشكل حثيث لنشر الوعي بين اللاجئات والناشطات النسويات حول الاتفاقية، من خلال ورشات عمل ومحاضرات ونقاشات مفتوحة، وكانت الاتفاقية هي الموضوع الرئيسي في مؤتمر المنظمة السنوي، والذي انعقد في مدينة إيرفورت العام الفائت. وتساهم داميغرا بشكل فعّال في كتابة تقرير الظل للجنة GREVIO.
إنّ العالم يشهد موجة كراهية وتمييز مخيفة ضد النساء، والأمر لا يقتصر على دول “العالم الثالث”، حيث الذرائع الدينية والاجتماعية التقليدية جاهزة، وأنظمة الاستبداد تنتهك حقوق الإنسان، بما فيها حقوق النساء، فالعنف والتمييز ضد النساء يشمل دولاً أوروبية متقدمة تزعم أنّ احترام حقوق الإنسان فيها قيمة مطلقة، فهل ستنسجّم تلك الدول مع ادّعاءاتها وتستمع لأصوات النساء ومطالبهنّ المحقّة؟
Leave A Comment