تعرض السوريون، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية وآرائهم السياسية، لأبشع أنواع الانتهاكات الحقوقية، التي لايزال من غير الممكن تحديد مآلاتها الحقيقية، فاضمحلال الحل السياسي وغيابه هو أحد الأسباب الرئيسية في تدهور الأمن والسلم الأهلي وبالتالي اتساع رقعة العنف.ضمن هذا الإطار كان على المجتمع السوري أن يواكب قدر الإمكان الحل السياسي بشكل يسمح بتسيير عملية إعادة بناء سورية على أساس مبدأ المواطنة والمساواة.
إن سورية اليوم بأمسّ الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يكون ضامناً لإنهاء العنف وتحقيق الأمن والسلام، وهنا تبرز نقطة بالغة الحساسية ضمن التشريعات السورية، لما يواجهه اللاعبون السياسيون من علاقة جدلية عميقة ما بين الدين والدولة، أو مبدأ فصل الدين عن الدولة، وبمعنى آخر امتلاك فكر علماني يترسخ من خلال علمنة المكان والزمان.
لذلك بدايةً لا بدّ من تعريف للعلمانية من حيث أنها (( Secular Ism) وترجمتها اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على أساس العلم والعقل ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين. وتعني في جانبها السياسي بالذات: اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE التي ظهرت في أوربا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق بداية القرن التاسع عشر، وخصوصاً مصر وتركيا وإيران ولبنان وسورية ثم تونس ولحقتها العراق.
واختيرت كلمة علمانية لأنها أقل إثارة من كلمة لا دينية. أما أشهر تعريفات العلمانية، فهو ما قاله الفرنسي جان بوبيرو، الذي شبّه العلمانية بمثلث الضلع الأول فيه يتعلق بخاصية العلمانية، أي عدم تسلط الدين(أو أي نوع آخر من أنواع المعتقدات على الدولة ومؤسسات المجتمع والفرد)، والضلعان الآخران للمثلث هما حرية الضمير والعبادة والدين والعقيدة، ويكون ذلك في التطبيق المجتمعي، وليس كمجرد حرية شخصية باطنية فردية.
حين العودة إلى تاريخ العلمانية في سورية نرى أنها ومضت فيها تحت الانتداب الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، وتنامت بشكل مستمر في ظل الحكومات المختلفة منذ الاستقلال إلى تاريخ وضع الدستور الحالي الذي جاء متضمناً مبدأ المساواة في ديباجته وفي المواد (18-19-16-26-23). تركز الديباجة على حماية الوحدة الوطنية والحريات العامة وحقوق الإنسان والمساواة والمواطنة وتكافؤ الفرص وسيادة القانون. وحتماً، إن تضمين مبدأ المساواة أمر بالغ الأهمية للسوريين كافةً، لاسيما في ظل تأصل التمييز بين فئات الشعب المختلفة كالمسلمين وغيرهم، وحتى التمييز ما بين المرأة والرجل، وهنا يبرز التعارض الواضح بين مبدأ المساواة وبعض النصوص الدستورية مثل اعتبار الفقه الإسلامي مصدراً رئيسياً للتشريع، والمادة الثالثة التي هي على الشكل الآتي:
(تحترم الدولة جميع الأديان، وتكفل حرّيّة القيام بجميع شعائرها على أن لا يُخلّ ذلك بالنظام العام والأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية).
إن هذا على خلاف دستور عام 1973 الذي خلا من هكذا نصّ، وهذا يعزز ما هو معمول به في سورية من ناحية التعددية الدينية والتشريعية في مجال الأحوال الشخصية، ويعطل من إمكانية اعتماد مؤسسة الزواج المدني.
إن مساوئ هذا التشريع تتجلى في تطبيق التشريعات الدينية على غير المؤمنين بها كالعلمانيين والمنتمين إلى أقليات دينية غير معترف بها رسمياً، وأيضاً ما تسببه هذه التشريعات الدينية من تكريس للطائفية وهيمنة للمؤسسات الدينية على المواطنين، والأسوأ من ذلك تفكك المجتمع نتيجة تطبيق قوانين مختلفة على أبناء الدولة الواحدة مما يتسبب بزعزعة الاستقرار القانوني.
وبما أن الأزمة السورية عامة ومركبة، فإن مهمات قوى التغيير يجب أن تكون عامة ومركبة. والمخاض السوري بحاجة إلى بناء دولة مدنية علمانية تنضوي تحت راياتها جميع الطوائف والمذاهب والشرائع تحت مظلة الأخلاق والقيم والعقيدة (التي يلتزم بها كل إنسان في علاقته مع السماء).
ختاماً يبقى السؤال متى تنتهي سياسة الإلغاء والإقصاء بحق كل رأي جديد، ومتى ستتجاوز السلطة الحاكمة الدساتير السابقة لبناء دستور موحد لجميع السوريين أملاً في وقف استطالة الأزمة الحالية؟
Leave A Comment