من الخاتمة سأبدأ، توقف الجميع وساد في القاعة سكون بانتظار الدكتور (فاروق الباشا) رئيس لجنة صياغة التوصيات ليتلوا حصيلة أيام ثلاث من الحوار والمداولات والمحاضرات، كان المزيج من المجتمع كلّه جالس في الدائرة المفتوحة، هنالك الشيخ والكاهن والمحامية والقاضي والطبيب وأستاذة الجامعة وكاتبة السيناريو والناشطة والإعلامي، كلهم كانوا هناك مهناً مختلفة ذكوراً وإناثا، كان شيء ما يجمعهم يلفهم ليترقبوا ما يخصهم ككتلة واحدة تتأثر بعلاقة تربطهم عقدية.. اتفاقية.. مؤسساتية.. المهم تعني شيئاً واحداً انه المواطنة.
وقبل أن يتلوا التوصيات أكد بعضاً من الحقائق أهمها أن في سورية قد حدثت فجوة تجسّدت بعدم التناغم بين العديد من النصوص القانونيّة ومعطيات الواقع نتيجة التطور الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وأن المادة (548) تخالف أحكاما أساسيةً في الدستور وتهدّد الوحدة الوطنية وتقوض مبدأ دولة المؤسسات وأن بعض النصوص القانونيّة لا تستند إلى أصلٍ شرعيّ إنّما على خلافه، و بما أن القانون هو التعبير عن إرادة الأمة المجسّدة للعقد الاجتماعي الذي ارتضى فيه الأفراد إسناد سلطة التجريم والعقاب إلى الدولة من خلال القضاء كطريق واحد وحصري.
لذلك كان لا بدّ من إعادة صياغة الفقرة الثالثة من المادة (192) من قانون العقوبات والتي تتعلق بالدافع الشريف وإلغاء المادة (548) بكليتها وتشديد جرم الزنى لكل من الرجل والمرأة بالتساوي وتشديد عقوبة جرم السفاح.وتوصيات أخرى على القدر نفسه من الأهمية ذكرها الدكتور (فاروق الباشا) ليؤكد عدّة نقاط تعني المساواة بين الرجل والمرأة في القانون وتجسيد ذلك في المناهج الدراسيّة ووسائل الإعلام ودور الإفتاء وغيرها ليعني شيئاً هاماً لم يقله لكن سمعه الجميع “لن يضيع حقّ وراءه مطالب”.
وساد في القاعة ضجيج منهم من صفّق بشده ومنهم من كاد أن يزغرد ومنهم من رفض وعارض فهاهو (غالب عنيز) عضو مجلس الشعب والمحامي يؤكد أنه يستطيع أن يحضر عشرة آلاف شخص يرفضون هذا الإلغاء لترد عليه الدكتورة في جامعة دمشق (راغدة الأحمد) يمكنني أن أحضر لك عشرة ملايين شخص يوافقون على هذا الإلغاء، وبين أخذ ورد رفعت الأيدي بالتصويت لتكون الأغلبية العظمى مع إلغاء المادة (548) من قانون العقوبات والتي تعطي العذر المحل والعذر المخفف للقاتل.
وبالعودة إلى أيام الملتقى والذي أقامته الهيئة السورية لشؤون الأسرة بالتعاون بين وزارة الأوقاف ووزارة العدل تحت عنوان “الملتقى الوطني حول جرائم الشرف” من تاريخ 14-16تشرين الأول 2008 كانت هنالك كثير من التوجسات وقليل من الآمال بالتغيير وهذا مردّه إلى تاريخ حافل بالتغاضي عن متطلبات الناشطين فكان اليوم الأول الذي تساءل فيه المتابعون عن حقيقة هذا الملتقى الذي جمع طوائف سورية كلّها من شرقها الى غربها ليحتلّون المكرفونات لا كحضور بل محاضرين ليتحوّل النقاش في آخر اليوم الأول للملتقى الى احتدامٍ بين مؤيدي الغزالي وابن تميمة والرافضين لآرائه وأفكاره والمؤيدين لأمثال الشافعي ومحي الدين بن عربي والرافضين لهم، لتتحوّل القيادة لرجالات الدين المقررين الأساسيين الأساسيين في تعديل أو تغيير قانون همس أحدهم أن الفقه الاسلامي لم يعلن بعد البراءة التامة منه. والمستغرَب الأكبر هو تحوّل المحامين أنفسهم ممن وصل بعضهم الى مجلس الشعب الى الدفاع عن نصوصٍ دينية تفوق دفاع أصحاب العمائم، لا بل بدأوا يتناقشون بأهمية العلامة فلان والفقيه فلان. لا بل في بعض الأحيان تعالت أصواتهم لتطالب بقوانين بديلة تحمي مجتمعنا من الفحشاء في حال غيّرنا هذا القانون الحامي للأخلاق والعفّة.
وهم في خارج القاعة بين طاولات القهوة والشاي يضحكون على هذا التغيير المطلوب ويتهامسون عن الاخفاق المنتظر لأولئك الطامحين لتغيير هذا القانون فهاهي جرائم الثأر مازالت موجودة بالرغم من القانون الذي يردع؟ وها هي السرقة مستمرة بوجود قوانين تمنع السرقة؟ فلم لا يبقى هذا القانون الذي في حقيقته يدافع عن الشرف والعفة ويحمي البلاد من الفحشاء والمنكر ويحمي جسد النساء الغض من الذئاب عندما تعرف بأن القتل بانتظارها في حال خروجها عن طاعة الأسرة.
همس لي أحد الدكاترة في كليّة الحقوق بأن أكثر من ستين بالمئة من المحامين والقانونيين يرفضون تغيير هذا القانون بل هم أوَل من سيرتكبون هذه الجرائم لأن مجتمعنا لازال مفتقرا للفكر المؤسساتي ولمفهوم الدولة والمواطن.
ليظهر وسط ذلك الضجيج الأسود بعضاً من رجال الدين المتنورين كأمثال الشيخ (حسين شحادة) والذي رأى أننا في مجتمعاتنا إلى الآن لم ندرك أن المرأة هي إنسان أولاً والمجتمع مازال يتعامل معها بمرتبة أدنى لذلك يجب النظر في القوانين التي تعاملها بدونية,وأمثال الأب (أنطوان مصلح) الذي طالب بإلغاء المادة (548) وبشكل علني دون مواربة.وغيرهما كثير.
أما اليوم الثاني فقد ظهر أكثر مؤسساتية بمعنى أنه يؤكد أنّ علاقة الفرد بالدولة علاقة مؤسساتية فهي تبنى على المواطنة كأساس فيتعامل جميع المواطنين بشكل متساوٍ دون النظر إلى الجنس أو الدين أو العرق وهذا أساس العقد بين الدولة والفرد ليصبح مواطناً له حقوق وواجبات فكانت جلسة قانونيين ومشرّعين دون تحييد مصدر قانوني كالشريعة الإسلامية مثلاً، وكانت هنالك حقائق وحوادث من المحامين والعاملين في مراكز الشرطة تؤكد أن الكثير من الجرائم التي ارتكبت تحت اسم الشرف كانت بناءً على معلومات خاطئة أو كاذبة أدت إلى القتل وحرمان الأسرة من الأم أو الأخت وأحياناً كثيرة كانت التهم ملفّقة لأجل الإرث أو أمورٍ عائليّة مادفع الكثير بالمطالبة بإلغاء المواد القانونية التي تبيح القتل بإعفاء القاتل من عقوبته أو بالتخفيف عنها.
وفي اليوم الثالث كان أكاديمياً حيث تحدّث أساتذة كليات علم النفس والاجتماع عن الأضرار النفسية والاجتماعية التي تنتج عن القوانين التمييزيّة وكذلك الآثار النفسية للقتل والتي تظهر على القاتل وعائلة المقتولة و القاتل، فكانت مواضيع تتعلّق بالأبعاد الاجتماعية والإنسانية لجرائم الشرف، ودراسات تتحدث عن موقع المرأة بين نقطتين العظمة أو العورة ما ضيّق عليها وجعلها رهينة قوانينٍ وأعراف سلبتها حقّها كانسان مساوٍ للرجل في الأسرة والمجتمع والقانون.وجاءت التوصيات أخيراً لتعبّر عن مقترحات الحاضرين والقائمين والمشاركين في هذا الملتقى من خلال المباحثات والمداولات والأوراق التي وزّعت على الجميع لتأخذ بآرائهم.
مسيرةً حافلةً لن تتسع الكلمات في اختزالها، استطعنا من خلالها الوصول إلى عددٍ من الشخصيّات التي تهتم وتناضل من أجل التغيير لأنها تؤمن بأن بلدنا يستحقّ الأفضل، فأثناء الاستراحة كانت لي دردشة قصيرة مع الدكتور في مادة القانون (سام دلا) الذي شرح أهمية أن تلغى المادة (548) حيث قال: “إنّ إلغاء المادة ربما لن يلغي الجريمة، لكن لأسباب موضوعية وبغض النظر عن الواقع إنما من منطلق مؤسساتي نطالب بالإلغاء فالسلطة صاحبة العقاب هي الدولة ويجب ألا تتخلى لصالح الأفراد عن هذا الموضوع فعن طريق القضاء يحتكم الجميع ولا يكفي إلغاء المادة (548) بل يجب إلغاء المادة(192) من قانون العقوبات أيضا لأنه من غير المنطق أن نترك العقاب للأفراد، علينا الاحتكام إلى القانون بشكل دائم وإذا كانت النصوص قاصرة يجب تعديلها وإذا كانت واضحة يجب تنفيذها”.
أما المحامية والناشطة (ميساء حليوى) فقد أكدت أهمية هذا الملتقى على أن يكون فاتحة لملتقيات كثيرة بشرط أن تنفّذ التوصيات لتعكس حالة طبيعية من التجديد والتغيير وقالت:” من المحزن أن نلتقي في الألفية الثالثة من أجل البحث في قضية قتل المرأة بدلاً من البحث في إمكانية تمكينها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ومن العار الإبقاء على موادٍ تخالف الدستور وخصوصاً المادة(25) منه ولا بدّ من إصدار فتاوى واضحة من الطوائف كما فعل العلّامة (حسين فضل الله) في لبنان في تحريم قتل المرأة، وتفعيل الدستور في كافة القوانين والقرارات”.
وفي لقاء قصير مع (لينا الحمصي) وهي دكتورة بالشريعة قالت:”إن بعض رجال الدين يروا في هذه المادّة محاربة للفساد وهذا مخالف للحقيقة لأن التوعية هي الأساس في المجتمع وهو ما يجب علينا أن نعمل لأجله ومن جهتي أرى وجوب تعديل هذه المادة التي تحلّ المجرم من عقوبته”.
وبعد طرح التوصيات تحدثت مع كاتبة السيناريو والمحامية(دلع الرحبي) عن رأيها في ذلك ومدى تفاؤلها من تنفيذ تلك التوصيات فقالت:” من جهتي لست متفائلة بأن تنفذ تلك التوصيات لكني أأمل بذلك وأؤكد بأن العقوبة رادع أساسي لارتكاب الجريمة وهي بدورها ستؤثر ولو بعد سنوات طويلة على عقلية المجتمع فالقانون الوسيلة الأسرع والأقوى في التغيير وحزام الأمان في السيّارة خير دليل على ذلك فكم طالبنا بوضع حزام الأمان لكن الناس لم يتقيدوا به إلا بعد صدور قانون يلزمهم بذلك وعلى هذا يمكن القياس، ومن خلال عملي بالمحاماة ألمس إشكالية كبيرة في تطبيق العديد من القوانين، فأحيانا لا أجد أيّ منفذٍ قانونيّ لإحقاق العدل الذي أراه لذلك يجب تعديل قانون الأحوال الشخصية وإعادة النظر في كثير من مواده”.
وترى (أسماء كفتارو) من الدراسات الإسلامية أن هذه التوصيات إنّما هي انتصار للإسلام تأمل تنفيذها لا أن تبقى حبيسة الأدراج وقالت:” نحن بحاجةٍ إلى توعيةٍ اجتماعيةٍ ودينيةٍ كلٌّ من مكانه لنكرّس أهمية دور المرأة في المجتمع وهذا من روح الشريعة الإسلامية”. كثيرةٌ هي اللقاءات التي وصلتُ إليها فكانت بين الدردشات والأحاديث المطوّلة لكنها باختلافها تأمل أن يتغيّر شيء ما يساهم بشكل حقيقي بدفع وطننا الصغير نحو الأمام إلى مكان يستحقّه.
وهنا في موقع نساء سورية لم تسعنا الفرحة التي ساهم بصنعها كل من عمل في هذا الحراك المجتمعي بدءاً من معاون رئيسة صفحة المجتمع عام 2003 والذي ناضل من أجل نشر تحقيق حول جرائم الشرف لأحد من الإعلاميين في الجريدة، مروراً بكل من سعى لفضح حوادث قتلت بها نساء لم يتم إلى الآن حصر عددهن وبكل من ساهم بجمع تواقيع ترفض القتل وتدينه وتطالب بإلغاء المادة (548) في مدن اشتهرت بهذه الجرائم البشعة مروراً بكل من أيّد حملة جرائم الشرف التي قام بها مرصد نساء سورية عام 2005 وتحمّل الضغوط والاتهامات من ناشطين وناشطات وأعضاء وعضوات مجلس الشعب ووزراء وقانونيين ورجال دين ونساؤه والى كلّ من مكانه سعى ويسعى لإلغاء القوانين التمييزية في بلد يعتمد على المؤسساتية ويؤمن بها كأساس العلاقة في الفرد ودولته لتكرّس مواطنيته وتحترمها,لكن الأمل الأكبر في تحقيق هذه التوصيات وسنعمل على رصد العمل بها ومتابعتها في المناهج التعليمية والإعلام والمواد القانونيّة والمحاكم والمؤسسات الدينية والتربوية في كل مكان لأننا نستحق الأفضل.
Leave A Comment