في الحروب والأزمات تستبدل بثقافة المحبة والتسامح ثقافة السلاح، يطفو القتال على السطح ويولد جيل جديد جُرّد من معظم اهتماماته البريئة والتفّ برداء العنف، وتكتسح ثقافة السلاح الإنسان، فالعنف ليس مجرّد أداة منفصلة يمكن أن تُستخدم تكتيكاً مؤقتاً في بعض الأحيان، بل ينطوي الأمر على أبعاد أخرى مختلفة تظهر بأشكال متنوعة، أي أن العنف لا يكتفي بأن يبقى أداة مؤقتة تستعمل في ظروف استثنائية خاصّة، بل يتحول إلى نظام ثقافي عام يستحوذ على الأجزاء المختلفة التي تشكل البنيان المجتمعي. وبهذا يصبح العنف سلوكاً دائماً يدعمه نظام اجتماعي ذاتي تحرّكه فكرة عقائدية مترسّخة في كيانه. وبعبارة موجزة فإنّ العنف يتغلغل في أعماق النفس البشرية ليبني كيانه الخاص، ويصبح هو الفكرة التي تحرّك الإنسان بحيث يتفرع منها سلوكه وثقافته، إذ يصبح العنف سلوكاً كلّياً لا يتجزأ له خاصية شمولية تنتشر في جميع أبعاد الكيان الإنساني..
وحالياً تعيش معظم المجتمعات العربية مرحلة قلق وجودي لكل أشكال التعددية، والتنوع، وحقوق الإنسان، واحترام الرأي الآخر، العدالة، والتنمية البشرية والاقتصادية المستدامة وغيرها وتلعب الظاهرة الطائفية،والأصوليات الدينية، والقوى التسلطية دوراً بالغ السلبية في وصول المجتمعات العربية إلى هذا المصير المؤلم.
فمن أين جاءت الطائفية؟
سؤال يُطرح في ظل العنف المتراكم والمتزايد. هنا يمكن القول إن الطائفية ظاهرة مرت بمراحل عدّة أبرزها الطائفية المستقرة، إذ تمارس الجماعات الطقوس والعبادات الخاصة بها، والطائفية المتفجرة التي تتحول فيها الجماعة كتلة متراصة وراء زعيم سياسي قوي يغلّب مصالحه الشخصية على المصلحة الوطنية العليا، والطائفية المدمرة التي تتأثر بعوامل داخلية، وإقليمية، وخارجية تجعل زعماء الطوائف جزءاً من مشاريع خارجية.
إن تحول جماهير الطوائف في بعض الدول العربية أدوات طيّعة في عملية القتل والتهجير والتدمير الذاتي، وتهديد العيش المشترك والوحدة الوطنية أودت بحياة الأبرياء في صدامات متكررة بسبب استمرار التوتر والاحتقان الذي يجعل من حادثة فردية واحدة مدخلاً لهجمات متبادلة تنتهي بوقوع ضحايا بريئة، وتهجير آلاف الناس وتفكك الروابط والصلات القديمة بين أبناء الحي الواحد، والقرية الواحدة، وتُهدد العيش المشترك في أكثر من دولة عربية، وقد تزايدت حدّتها في السنوات الماضية لذلك وقعت في دائرة الضوء لتدرس الطائفية كظاهرة اجتماعية ذات جذور موغلة في القدم. وهكذا تحولت الأسباب الذاتية والموضوعية، إلى أزمة دائمة، في ظل بعض القيادات الطائفية التي تعامل أفراد طائفتها كرعايا ملحقين بها، لا كمواطنين أحرار ينتمون إلى دولة ديمقراطية عادلة يتساوى فيها الناس في الحقوق والواجبات.
ومع غياب دور الدولة تحولت العصبية الطائفية سلاحاً إضافياً يجري توظيفه في الصراع، والتملك، ونشر الفساد والإفساد، ومحاربة كل أشكال العقلانية في بناء مؤسسات الدولة والمجتمع المدني,لقد ساعدت الطائفية على تفكيك المجتمعات العربية ذات التنوع والتعددية، وهددت وحدتها الداخلية في ظل غياب الدولة الحديثة أو تغييبها، وشكلت مؤشراً سلبياً على عجز المجتمعات العربية عن الانتقال إلى مرحلة الحداثة على أسس عقلانية سليمة. وهي نتاج تراكم سلبيات عدة ومتداخلة، أبرزها:
عجز الطبقة السياسية الحاكمة عن بناء دولة مركزية عصرية تقوم على المؤسسات وحكم القانون.
عجز مؤسسات المجتمع المدني عن التصدي لمشكلة الطائفية التي باتت سلاحاً مجرباً لضرب قوى الحداثة والتغيير الجذري.
فشل المؤسسات التربوية والمهنية في تقديم ثقافة وطنية صلبة تحصّن الأفراد من الانخراط في النزاعات الطائفية والمذهبية.
وعلى ذلك، لابد من محفزات للعنف في الثورات العربية، لعل أبرزها:
– المحفز الهوياتي: ذلك أن الهوية قد تتحول إلى سلاح عنيف ضد الآخرين، أياً كانت انتماءاتها الأوّلية (دينية، طائفية، مناطقية) أي حين ترى نفسها أرقى من الآخرين، بما يسوغ لها ممارسة الإقصاء والاستبعاد للآخرين.
– المحفز الاجتماعي – الاقتصادي: إذ إن تردي الأوضاع الاقتصادية، ورغبة المجتمع في جني ثمار التغيير سريعاً، فضلاً عن غياب سياسات جذرية لضمان العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروات، كل ذلك يسوغ الممارسات الإقصائية اجتماعياً واقتصادياً.
– المحفز الإعلامي: فرغم الدور الرئيسي الذي تلعبه وسائل الإعلام في الحشد والتعبئة ضد الأنظمة ، فإن أداءها شابَهُ قدرٌ من التحيز، دون محاولة التركيز على الهموم والسمات المشتركة بين الطرفين، ودون أن يكون هناك نفاذ إلى تعددية وجهات الرؤى داخل كل فريق.
– محفز ضعف الدولة: فإذا كانت مرحلة الثورات قد كرست ضعف الدولة وتفوق المجتمع عليها، إذ لم تستطع الدولة القيام بوظائفها التنموية والأمنية والتوزيعية. فلا تزال المجتمعات ترى أداء المؤسسات في ملف الأمن ضعيفاً، ولم يلبِّ الحاجة المجتمعية إلى الأمان. وبالتالي، فضعف الدولة أغرى باستمرار العدوان عليها، وأوجد بيئة محفزة للعنف.
– المحفز الخارجي: لاسيما أن القوى الكبرى مارست تأثيرات على الأنظمة، سواء عبر دعم بعض التيارات السياسية على حساب الأخرى، أو استخدام أداة المساعدات الاقتصادية لتوجيه سياسات الأنظمة بما يتفق مع مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، مما خلق نفوراً وغضباً في بعض الحالات.
خلاصةً لابد من التنبيه إلى أننا كمجتمع لا نختلف عن غيرنا من المجتمعات، فلدينا عاداتنا وتقاليدنا، ولدينا مقولاتنا التراثية عن الثأر والعين بالعين والبادي أظلم وما شابه، وفي بيوتنا نربي أولادنا على (من ضربك اضربه) ونشجع أطفالنا على الشتم والمسبات ونصفق لهم. وفي انتخاباتنا تتلاحم العائلات والقبائل وتصطف لمحاربة العائلات المنافسة، وتقع حروب داحس والغبراء الانتخابية. فالعنف في بيوتنا وأفكارنا وليس غريبا علينا، ولو لم يكن كذلك لنبذناه من سنوات، ولما انتظرنا حتى تصبح له تداعيات خطيرة ويفتك بمجتمعنا كالوباء حالياً.
Leave A Comment