كتب علي بنهرار في مرايانا:
تُكفل للمرأة الطارقية حرّيتها تلقائياً، ولا تهيمنُ على الرجل الأزرق أية أفكار بطرياركية، ولا ينشأ بها في الثقافة. لهذا، فإن فكرة تفوق جنس على الآخر منعدمة تماماً…
هي الآمرة والنّاهية في بيتها وهي من يواجهُ صَرامة الوحيش وقسوة العيش في البيداء.
هي سندٌ لا يمكنُ تجاوز دوره في البنية الاجتماعية الأميسية، ومن ثمّة في شتّى مشارب حياة “الشعب الأزرق”.
لم تكن قط تحت رحمة الرّجل، بل كانت، ولازالت حتى اليوم، إلى جانبه، متمسّكةً بالمكانة الاعتبارية التي تحتلها في تلك “المجتمعات القبلية”.
هي المرأة الطارقية التي ورثت الحِكمة منذ الملكة تينهينان، التي اعتبروھا جدتھم الأولى وسیدتھم الوقورة، حیث ورثوا عنھا جاهها ونسبھا.
مرايانا، في هذا الملف، تعرض ملامح الأمومة في المجتمع الطارقي، والمكانة التي تحتلّها النساء في هذه البنية التّقليدية المتواجدة إلى اليوم في صحراء مالي والنيجر والجزائر وليبيا.
يُنظرُ لمؤسسة الأسرة على أنها خلیة المجتمع الطارقي ونواتهُ. بذلكَ، تتمتّع المرأة (تَمَاطْ) داخل الأسرة بالاحترام والتّبجیل، مقاومين بذلكَ سطوةَ النظام البطرياركي الأبيسي، الذي استأسد بالمنطقة، مع أن “الرجال الزرق” لا يقلّون شَراسة في الحُروب عن سواهم.
نمط عيش الطوارق، و”هروبهم” من الاختلاط مع بقیة القبائل الأخرى، ساعد المرأة أن تخلّد بعض الخُصوصیات التي تمتاز بها بالمقارنة مع نظيرتها العربية، التي لا تزال “تعاني” تجاه المخيال الشّعبي والنظرة التراثية.
يسافرُ عادةً رجال القرية في رحلات جلب المؤونة والملابس وبيع الملح، ويتركُ الأمر للنّساءِ. لذلك، فاضطلاع المرأة الطارقية ببعض المهام “التقليدية”، هو نتاج لتقاسم الأدوار بين الجنسين من جهة، كما هو دليل على الخصوصية السوسيوثقافية للطّوارق الرّحل.
المرأة الطارقية… للحرية عنوانٌ
تُكفل للمرأة الطارقية حرّيتها تلقائياً، ولا تهيمنُ على الرجل الأزرق أية أفكار بطرياركية، ولا ينشأ بها في الثقافة. لهذا، فإن فكرة تفوق جنس على الآخر منعدمة تماماً.
قال ابن بطوطة، وهو يتحدّث عن قبائل الطوارق: “…ولنسائھا الجمال الفائق، وھنّ أعظم شأناً من الرّجال، وشأن ھؤلاء القوم عجیب، وأمرھم غریب، فأما رجالھم فلا غیرة لدیھم… وأمّا نساؤھم فلا یحتشمن من الرجال ولا یحتجبن، مع مواظبتھن على الصلاة، ومن أراد التزوج منھن تزوّج، لكنھن لا یسافرن مع الزوج… والنساء ھنالك یكون لھنّ الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب، وكذلك للرّجال صواحب من النساء الأجنبیات، ویدخل أحدھم داره فیجد امرأته ومعھا صاحبھا فلا ینكر ذلك: دخلت یوما على القاضي، بعد إذنه في الدّخول، فوجدت عنده امرأة صغیرة السن بدیعة الحسن، فلمّا رأیتھا ارتبت وأردت الرّجوع، فضحكت منّي ولم یدركھا خجل، وقال لي القاضي، لم ترجع؟ إنّھا صاحبتي”.
ویقول أیضا: “…دخلت یوما على أبي محمد بن یند، فوجدته قاعدا على بساط، وفي وسط داره سریر مظلل علیه امرأة معھا رجل قاعد، وھما یتحدّثان، فقلت له: “من ھذه المرأة؟”، فقال: “ھي زوجتي”، فقلت: “ومن الرجل الذي معھا”، فقال: “ھو صاحبھا!” … فقال لي: “مصاحبة النساء للرجال عندنا على خیر وحسن طریقة، لا تھمة فیھا، ولسن كنساء بلادكم…”
مع ذلك، فقد حدث إسراف في التطرق لحرية المرأة الطارقية، وتجلى ذلك في ترديد بعض الكتاب لخطاب المساواة بين الجنسين، بالمقارنة مع الفجوة التي ما تزال تغرق فيها المنطقة العربية، على ضوء فكرة أن المرأة الطارقية في الهقار تهب نفسها للضيوف والأصدقاء!
لقد حاول الكثير من الباحثين “عقلنة” هذا الرأي، وإفراغه من أسطورةٍ لا أساس لها من الصحّة، ذلك أنه مع كل الحرية، فإنّ هناك تقاليد صارمة لا تصل إلى الحد الذي تروج له تصورات كثيرة من خارج المجتمع الطارقي، كما يقول عبد القادر خليفي.
الطوارق… وللمرأة إيقاعاتها!
من الأشياء المحسومة لدى مجتمعات الرّجال الزّرق، أنه لا تتبدّل مكانة الأنثى، ولا يتغيّر موقع الذّكر بعد الزّواج ليصبح سيّدا على المرأة؛ إذ أن الفتاة تتمتع بجميع مزايا الشاب في المجتمعات البدوية، حيث تتلقى التكوين الذي يتوافق وبيئتها من تفصيل الملابس وترقيعها، وتقطيع شعر الماعز والجلود، وطريقة نصب الخيمة، كما تتعلم حروف التيفيناغ ولغة الطوارق “تماشيق”، وقراءة القرآن وتعاطي الشعر.
من أهم الأشياء التي تتعلمها الفتاة من والدتها، وتعتبر ذات أهمية في مجتمعها، هي مداعبة الآلات الموسيقية التقليدية، لاسيما الإمزاد التي لا يتعملها سوى النّساء.
أكثر من ذلك، ففي وقت يمنع التراث الإسلامي رفع المرأة صوتها أو الغناء، تحظى المرأة الطّارقية بالحُرية في هذا المجال، بل بشكل أدقّ فالأمر يدخُل في التّربية والحذق كذلكَ.
أيضاً، تستطيع المرأة الطارقية الرقص ومداعبة جسدها أمام زوجها وأطفالها، دون أن تحضر العلاقة المتشنجة تجاه الجسد الأثنوي، التي تطوّق أغلبَ الذّهنيات العربية.
الموسيقى والمرح تحتلّ مكانة هامّة لدى الطوارق. لذلك، فهي بمثابة علاج خفيف، يدرءُ ضغط الوحيش والبيئة التي يتواجدون فيها.
الواقع أن النسق الاجتماعي الطّارقي، وخلافاً لثلّة من المجتمعات العربية القريبة جغرافياً من مناطق “إقامة” الطّوارق، أعطى المرأة مكانة اعتبارية، تجعلها محورَ شتّى العلاقات الاجتماعية والإنسانية؛ إذ أنّ حريتها تُظهر مدى تحرر مجتمعات المناطق الصحراوية، وكمّ تجاوزهم الفِطري لخطابات تعتبرها المنظمات الدولية “رجعية” أو “بالية”، لأنّها مُجحفة في حق المرأة ومحجّمة لأدوارها.
حسب الصحافي الموريطاني محمد أبو المعالي، المتخصص في الثقافة الطارقية، فإنّ النّساء في مجتمع الطوارق مسؤولات عن الحفاظ على مكانة العائلة وتقاليدها وعاداتها، “سواء تعلق الأمر بمواساة الجار والمعوز، أو العطاء عن النوائب، أو الاهتمام بالضيوف، وهي عادةٌ عرف الطوارق بالمبالغة فيها، حيث يعتبر عدم الإحسان إلى الضيف فضيحة لا تبارح مرتكبها مدى الحياة”.
لذلك، فما إن “يقترب الضيف من الخيام، حتى تهرع المرأة وتستقبله بآنية مملوءة بحليب الإبل في إشارة إلى الترحيب به، ثم تبدأ في إحسانه، وإن تعلق الأمر بضيُوف عديدين فإنّ على نساء الحي الأخريات إرسال العون، ومساعدة ربة البيت في إكرام الضيوف”، يقول أبو المعالي.
في الجزء الثاني، سنرى كيف تمتدّ العادات الأميسية في المجتمع الطارقي، فيما يخصّ الزّيجات، وكذلك حفاظ المرأة على مكانتها الاعتبارية في الزواج كما في العزوبة.
الجزء الثاني: المرأة في المجتمع الطارقي: البكارة والزواج والنسب… عوالم مختلفة! 2/2
Leave A Comment