كتبت وديعة فرزلي في الجمهورية:
اضطررنا العام الماضي للبقاء في بيوتنا وقتاً أطول من المعتاد وراء شاشات اللابتوب والهاتف المحمول، إمّا من أجل إنجاز العمل، أو من أجل تسلية أنفسنا بمشاهدة ما يعرض من أفلام ومسلسلات، أو حتى لمشاهدة الإدمان الجديد وهو فيديوهات تيك توك. وجدنا أنفسنا بعد سنة من الوباء في سباق ماراتوني مع قائمة المشاهدات والقراءات المتراكمة، لكن في ظل الإنتاج الكثيف للإعلام البديل على وسائل التواصل الاجتماعي، فرضَ المحتوى النسوي ذاته على مختلف المنصات، واتّخذَ أشكالاً متعددة بصرية، مسموعة ومقروءة. حتى المنصات التي لم تُعرِّف نفسها يوماً على أنها منصّات نسوية، كانت مضطرة لإنتاج محتوى نسوي، وذلك استجابة للخطاب النسوي الجديد على منصات التواصل الاجتماعي والإعلام البديل. أمّا على مستوى التفاعل الجماهيري، فالقضية النسوية فرضت ذاتها على الفضاء العام عربياً وعالمياً، سواء عبر حضور النساء الفاعل في ساحات الثورات في لبنان والسودان وتشيلي، أو إثارة الجدل الواسع بما يخص قضايا التحرش والاغتصاب وحقوق النساء، ومنها قضية فتيات التيك توك في مصر مثلاً. وسواء كان تفاعل الأشخاص سلبياً أم إيجابياً مع القضايا النسوية، إلّا أن أسئلة من نوع هل أنا نسوي/ة؟ أو ما رأيك/ي بالنسوية؟ صارت تواجه الجميع، وتدفع نحو التفكير بسلوكيات ونمط حياة ظلّ مقبولاً لعصور طويلة.
من قائمة المشاهدات المفضلة
تجلّى النقاش النسوي الصاخب والمحتدم في انطلاق برامج نسوية أو تأسيس منصات نسوية جديدة ناطقة بالعربية خلال العام المنصرم. برز منها موقع خطيرة، الذي يتناول موضوعات نسوية، تتفاعل مع النسوي الراهن مثل تفاعلها مع قضايا الاغتصاب والتحرش في العالم العربي، أو مع النسوي اليومي مثل النساء في أماكن العمل والبيت والمواصلات. وأكثرُ إنتاجات خطيرة شهرةً كانت لهذا العام فيديوهات سمعتوها مني، التي تقدمها الأردنية ماريا عليان، والتي تناولت موضوعات نسوية كانت يتم اعتبارها تابوهات يجب عدم مناقشتها، أو قبولها على أنها بديهيات. تميزت ماريا عليان بتقديم فيديوهات قصيرة، شارحة أحياناً، بطريقة ساخرة، وبلغة قريبة من المشاهدات والمشاهدين. حصدت سمعتوها مني بعد الموسم الأول عدداً كبيراً من المشاركات، ولديها ما يتجاوز 89 ألف متابع على قناتها على يوتيوب.
صفحة موج المنشأة حديثاً على انستغرام، هي صفحة نسوية تختص بالتوعية الصحية عن أجساد النساء وصحتهنّ الجنسية، وتتطرق إلى موضوعات ومعتقدات مغلوطة أو محرّم نقاشها في البيت أو بين دوائر الأصدقاء، كما أن موج تقدم مساحة آمنة للنساء اللواتي يرغبنَ بمشاركة قصصهنّ الخاصة، لكن مع الحفاظ على سرية هويتهنّ من خلال فيديوهات حكواتية، حيث ترسل النساء قصصهنّ التي يكتُبنها بأنفسهنّ، وتقرأ القصص ناشطات في المجال النسوي، حفاظاً على خصوصية صاحبات القصص، ومن أجل حمايتهنّ أحياناً.
أمّا منصة صوت، فقد اختارت وسيلة تَواصل سمعية هذه المرة، عبر بودكاست سلسلة عيب التي يتناوب على تقديمها مجموعة مُقدمين؛ تطرقت السلسلة ضمن مواسمها الستة إلى مواضيع تخصّ العلاقات الإنسانية والعاطفية، علاقة الفرد بنفسه ومجتمعه. كما خصصت عيب موسماً كاملاً للمواضيع النسوية مثل الأمومة والإجهاض والتربية، لكن حتى في المواسم الأخرى، نلاحظ أن التطرق لمختلف المواضيع يتم من وجهة نظر نسوية، حيث أصوات النساء تحتل مكانة واسعة من معظم التسجيلات.
الفكر النسوي للجميع
نسمع بكلمات دعم المرأة و«وومن إيمباورمنت» منذ بداية الألفية، وهناك دائماً حملات توعية تخص الصحة الإنجابية، لكننا لم نكن نسمع عن حملات توعية عن الصحة الجنسية للمرأة مثلاً، وكأنّه لا وجود للصحة الجنسية للمرأة إّلا من خلال صحتها الإنجابية! في السنة الأخيرة، أثبت الفكر النسوي ضرورته وحيويته، ولم يعد نقاشاً نخبوياً فحسب، بل إن الحاجة الحياتية واليومية لخلق مساحات آمنة للنساء في أماكن العمل والبيت والمؤسسات، جعلته نقاشاً مركزياً سواء بين النساء أولاً، أو في دوائر اجتماعية أوسع.
أهمية المنصات الجديدة والمواد البصرية والمسموعة والمكتوبة السابقة، تتجلى في ضرورة الحديث عن القضايا النسوية بلغة حيوية يومية، وضرورة مخاطبة جميع النساء، فالنساء اللواتي لم يتعرّضنَ للتحرش من قبل، ربما تعرّضنَ من مضايقات من الأب أو الأخ أو الزوج، أو سوء معاملة من الشريك أو الصديق، أو ربما تم استثنائهنّ من مناصب في العمل أو فرص تعليمية خلال مراحل تطورهنّ. لذلك نلاحظ أن المحتوى النسوي بلغ درجة من التنوع شملت شرائح عديدة من النساء العاملات والأمهات والزوجات والمثليات والطالبات في الجامعة والمهاجرات. أما أهمية إنتاج بودكاست أو فيديوهات تتطرق لقصص النساء، فهي تكمن في أن القصص الخاصة امتدادٌ للفضاء العام الاجتماعي والسياسي، وهذه القصص ضرورية لأن جزءاً كبيراً من المعرفة والخبرات يتم تداولها من خلال إخبار القصص (Storytelling)، مما يسمح لكل واحدة من النساء أن تتأكد بأنها ليست وحدها أو ليست الأولى التي تختبر تجارب صادمة أو قاسية، وأن الشعور بعدم الراحة الذي تسببه بعض التصرفات، ليس ناتجاً عن حساسية مفرطة أو سوء تقدير أو فهم.
كما أن العمل على رفع الوعي لم يستهدف النساء وحدهنّ، بل الرجال أيضاً، كما في فيديوهات خطيرة عندما تتناول السلوكيات الذكورية بشكل ساخر، عبر تقليد سلوكيات ذكورية، أو التنكر بملابس رجل ورسم شارب على الوجه، أو السخرية من نبرة الصوت وأسلوب الكلام وبعض المفردات، لا سيما إذا كانت هذه السلوكيات صادرة عن رجال يبالغون في تقدير مكانتهم الاجتماعية لمجرد أنهم يتمتعون بمميزات سلطوية منحتها المجتمعات لهم، عندها يكون التهكم والسخرية منها أفضل الطرق لنقدها وإظهار عيوبها عند التطرق لمعاييرها السّامة، التي تضغط الرجال وتجبرهم على أن يصبحوا ذكوراً في بيئاتهم التي نشأوا فيها.
كما بدأنا نلحظ تغييرات في استخدام اللغة الجندرية مثلاً كما في فيديوهات ديستوبيا عربي أو بودكاست منبت التي يقدمها بشر نجار، فلم تعد تقتصر مخاطبة المشاهدين وراء الشاشات من خلال الضمائر المذكرة فحسب، بل أيضاً من مخاطبة النساء بضمائر مؤنثة، حتى لو أن المحتوى ليس نسوياً بشكل خاص. فعبارات مثل: «عزيزتي المشاهدة، أو صديقتي المستمعة، أو كما أخبرتكِ سابقاً»، تُشرِكُ المشاهدة أو المستمعة في عملية التواصل والتلقي، وتذكر المشاهد أو المستمع أن هذا الفيديو أو البودكاست موجه لأخريات غيره، ومهتمّات بالقدر ذاته بالمواضيع المطروحة سواء كانت تاريخية أو علمية أو اقتصادية.
نقطة الدم الزرقاء!
تنتفع الإعلانات الترويجية إلى يومنا هذا من أجساد النساء وأدوارهنّ الاجتماعية من أجل التسويق لمختلف المنتجات، حتى تلك التي لا تستهدف النساء مباشرةً، ولا نقول شيئاً جديداً إذا ما أشرنا إلى التغييرات الجذرية اللازمة في شكل الاستراتيجيات التسويقية بما يتعلق بتمثيل النساء وصورتهنّ في المجتمع. لكن بعض الشركات التجارية اضطررت لتغيير استراتيجيتها التسويقية. في سياق الحديث عالمياً عن تخفيض أسعار مستلزمات الدورة الشهرية أو تأمينها مجاناً لجميع النساء في العالم، نجد عربياً الحملة التي بدأتها شركة نانا المنتجة للفوط النسائية، وهي حملة إعلانية مصممة للحديث عن الدورة الشهرية واضطراباتها، من خلال تعاونات وشراكات مع شخصيات من المؤثرات من السوشال ميديا، لتناول المسألة علناً ومشاركتها مع الجمهور، وذلك بعد أن سيطرت ولعقودٍ طويلة صورة نقطة الدم الزرقاء، التي تقطر بهدوء على الفوطة الصحية، على مخيلتنا حتى سن البلوغ في جميع اعلانات الفوط الصحية. تغيير مسارات الإعلان بالنسبة للشركات لا يدل بالضرورة على تبني هذه الشركات لنظام نسوي، لكن اضطرار الشركات للانفتاح على الخطاب النسوي الجديد، هو دليل على اضطرارها للانفتاح على التغييرات، حتى لو كان ذلك لأهداف ربحية ونفعيّة ودون الرغبة في إحداث تغيير فعلي.
لا يزال أمامنا كثيرٌ من الجهد والعمل من أجل الوصول إلى مجتمعات تحترم كرامة وحرية النساء، ومن أجل أن تُردَم الفجوة بين النساء والرجال في المجتمعات الذكورية، وربما أكثر ما ينقصنا على ساحة الإعلام البديل والرسمي هو المحتوى النسوي، وذلك لقدرته على إحداث تغييرات اجتماعية وربما مستقبلاً تغييرات قانونية، تكون ضامنة لحقوق النساء على المدى الطويل في القضايا الشائكة المختلفة، من جرائم الاغتصاب والتحرش إلى قوانين العمل والحقوق المدنية، الأمر الذي يتطلب جهداً كثيفاً ومستمراً لا يُستهان بأهميته ولا بمدى حاجتنا إليه.
Leave A Comment