كتبت آلاء عليوي في سناك سوري:
لم أشعر يوماً بالإهانة كما أشعر بها دوماً كلما هممتُ لأداء الصلاة في مساجد دمشق أو مرافقها العامة!.
معظم المواقف التي سأسردها هنا لا تخص الرجال، فالإهانة التي أتحدث عنها موجهة لشريحة النساء، فيما يبدو لي أن أوقاف هذا البلد الإسلامية مُصممة لرجالها فقط، وكل ما أُعطي فيها من مساحات للنساء هي بدواعي الفضل والمنة، وكأننا جزء زائد في هذا المجتمع مُنح على عجل بعض الاعتبارات.
في الأحوال التي أكون فيها خارج المنزل -وهي كثيرة بحكم العمل والدراسة- أُضطر لأداء الصلاة في دور العبادة، وما إن أصل إلى أقربها حتى تبدأ العقبة الأولى المتمثلة في البحث عن الباب الخاص بمصلّى النساء، أي نعم يا سادة في الباب الذي أجده معظم الوقت مغلقاً أمامي أو أنه غير موجود أصلاً!، ومع ذلك في كل مرة أبحث عنه بجولة أو اثنتين حول المسجد في محاولة لتتبع السهم الذي يشير إلى مكانه، وبعد أن أصاب باليأس أتوجه بالسؤال عنه إلى أحد الباعة المجاورين، وغالباً ما تأتي الإجابة بأنه مغلق.
وهنا نحن أمام خيارين؛ إما أن القائمين على المسجد وبعد إغلاق مُصلى النساء استعاضوا عنه بما يشبه الستارة الصغيرة التي تحجب جزءاً بسيطاً من مساحة مُصلى الرجال لا تتجاوز مترين وبالكاد تكفي لسيدتين أو ثلاث لأداء الصلاة بينما تنتظر البقية في الخارج، كما في جامع السقيفة – باب توما، أما الخيار الآخر هو إغلاق مُصلى النساء بشكل نهائي ومنعنا تماماً من الدخول، ما يعني أن علينا أن نعود أدراجنا وننسى موضوع الصلاة إلى حين العودة إلى المنزل، وفي إحدى المرات توجهت لإمام الجامع لسؤاله عن سبب إغلاق مصلى النساء، فأجاب (أنتو كم وحدة مانها حرزانة نفتح مصلى النساء)، علماً أن الرجال الذين أدّوا الصلاة في ذلك اليوم والذين كنت أراقبهم بغيظ من باب المسجد لم يكملوا بعددهم الصف الأول!.
(لا يوجد موضأ) أو (لا يوجد حمامات) هي العبارة الشهيرة المعلقة في معظم الأماكن المخصصة لصلاة النساء في مساجد دمشق، رغم أهمية وجوده فيها كشرط أساسي للصلاة، فيما لا يخلو أي مسجد في الشق الذكوري منه من موضأ وحمامات.
أما غيابها في قسم النساء يعود لسبب بسيط، أن من قام ببناء الجامع بدايةً، وخاصة تلك القديمة منها، لم يخطر في باله أصلاً أن تصلي النساء فيه!، فلم يتم تخصيص مكان لصلاتهن ولا مرافق ملائمة لهن، أما اليوم فتقع هذه الجوامع في أماكن وأسواق تشكل النسوة 80% من روادها، كما في أسواق الشعلان والصالحية والقصاع بدمشق.
جامع الشعلان نموذجاً
فلنأخذ جامع الشعلان نموذجاً، حيث يقع في منتصف أحد أشهر أسواق دمشق، ولكونه بناء قديم فهو لا يحتوي في تصميمه مكاناً مخصصاً لصلاة النساء، ثم تم تلافي ذلك بإحداث سقف خشبي مستعار كمصلى للنساء دون موضأ طبعاً، يمكن الصعود إليه بدرج ضيق يحاذي حمامات الرجال، والتي يبدو من رائحتها الكريهة النفاثة أن استخدامها لا يقتصر على المصلين، إنما هي حمامات تستخدم من قبل مرتادي السوق عموماً، أما أنا الراغبة بأداء الصلاة فيتوجب عليّ كتم أنفاسي لتخطي باب الحمامات والصعود للأعلى بدرج عمودي مستعار لا يمكن لامرأة مسنة أن تصعده حتماً.
حين أصل أقرأ على الباب عبارة تقول: “صلاة النساء خلف الستار”، ولم أستطع حتى اليوم إيجاد أي تفسير لوضع ستارة في مصلى مخصص بكامله للنساء، تحجب خلفها مسافة ضيقة، وتؤمر النسوة بالصلاة خلفها، سوى أننا نُعامل في دور العبادة كما تعامل الأغنام!.
أذكر في شهر رمضان ما قبل الفائت، وفي إحدى جولاتي عصراً في السوق قبيل العيد توجهت لأداء الصلاة في ذات الجامع، وما إن وصلتُ منتصف الدرج حتى صرخ أحد الرجال: (وين طالعة يا آنسة؟؟؟ الشباب نايمين فوق)، كتمت غيظي ونزلت بالفعل دون أن أجادله، فيما يبدو أن بعض أصحاب المحلات التجارية المجاورة أو من يعملون لديهم يريدون أخذ قسط من النوم هنا حتى يتمكنوا من متابعة عملهم في السوق لوقت متأخر من الليل في الأيام الأخيرة قبيل عيد الفطر، بينما أتساءل: لِمَ لا ينامون في مصلى الرجال؟ ومن حوّل مساجد دمشق لحمامات عامة وأماكن لقضاء القيلولة، وحرمني من الصلاة فيها؟.
اقرأ أيضاً:هل لدينا إجراءات رادعة لوقف العنف ضد النساء؟ – لينا ديوب
هل كورونا تصيب النساء فقط؟
أما لماذا يصيب فايروس كورونا النساء في سوريا أكثر من الرجال، فلا أعتقد أن أحداً يعرف الإجابة، ولم تثبت أي دراسة علمية ذلك، سوى أن وزارة الأوقاف السورية قررت بعد انتهاء فترة الحظر الصحي خلال أزمة كورونا أن تعيد افتتاح المساجد بوجه المصلين الرجال فقط وتغلقها بوجه النساء في معظم دور العبادة!، دون أي تفسير علمي أو منطقي لذلك، ومازال الأمر سارياً حتى اليوم بعد مضي أشهر طويلة على انتهاء الحظر، وكأنهم كانوا بانتظار حجة ما لإغلاق مصليات النساء!، أما عن الصلاة في الأماكن العامة، حيث نعمل وندرس ونتدرب ونتطوع، فلها قصصٌ من نوع آخر.
في جامعة دمشق لا يبدو الوضع أفضل بأي حال رغم عدد الساعات الطويلة التي يقضيها فيها أي طالب وحاجته لأداء الصلاة عدة مرات في اليوم. يضم حرم جامعة دمشق- فرع المزة خمس كليات رئيسية، تحتوي كلية الآداب وحدها على 14 فرعاً، وفي هذا الحرم الضخم لا يوجد سوى مكانين فقط لأداء الصلاة، الأول في بناء كلية طب الأسنان ويتضمن مصلى خاص بالذكور وهو الأفضل حالاً من حيث النظافة والترتيب، بينما قامت الإناث باستغلال الغرفة المخصصة لطالبات طب الأسنان، حيث يضعن أدواتهن ومستلزماتهن الطبية، وحوّلنها إلى مكان للصلاة.
والمصلى الآخر يقع في حرم كلية الآداب رغم أنه لا يمكن أن نطلق عليه “مصلى” بأي حال من الأحوال، حيث تم وضع عدة سجادات للصلاة في آخر إحدى ممرات الكلية المخصصة للحمامات، وبذلك نجاورها تماماً كمصلين، إلى جانب أدوات التنظيف وسلال المهملات.
لن يضر أحداً
ما يؤسفني أيضاً أن الوقت المتاح لأداء الصلاة هو خلال الفاصل القصير بين محاضرتين، وبينما كان زملائي يستمتعون بشرب فنجان سريع من القهوة، كنت أقضي الاستراحة في السير بمسافة ليست بالقليلة من كلية إلى أخرى ذهاباً وإياباً لأداء الصلاة.
وأنا هنا لا أنادي أبداً بزيادة عدد المصليات في الجامعات أو غيرها من الأماكن العامة، إنما أنادي بالحق الذي كفله لي الدستور السوري في المادة الثالثة منه والتي تقول باحترام الشعائر الدينية والحرية بأدائها دون الإخلال بالنظام العام. وأعتقد أن وضع سجادة صلاة واحدة بمكان لائق ونظيف في حرم كل كلية من الممكن أن يجنبني الكثير من العناء والإهانة ولن يضر أحداً.
كما تفعل الجامعة الأميركية في بيروت مثلاً، وهي صرح علماني بامتياز، ولا يوجد في حرمه مكان مخصص للصلاة، ولا ضير في ذلك، ولكن هناك سجادات صلاة موضوعة في كل مبنى من الجامعة، يمكن بيسر وسهولة واحترام أن يصلي أي طالب فيها منفرداً دون أن يؤذي أحداً أو يخل بالنظام العام أو يتكبد أي عناء.
أما بالنسبة لأماكن العمل والمؤسسات العامة فنصلي معظم الوقت في المطابخ والمستودعات وغرف الاستراحة المخصصة للعمال، ولعل أطرف مكان قمت شخصياً بالصلاة فيه هو غرفة مخصصة للسيرفرات في إحدى المنظمات الدولية بدمشق، شعرتُ حينها أنني أصلي في “مكوك فضائي” لضيق المكان وحجم الأجهزة وقوة التبريد، ولعل أجمل الأماكن التي صليتُ فيها وأكثرها احتراماً هي مصلى فندق الفور سيزون والمركز الثقافي البريطاني قبل إغلاقه (رغم أنه لا يحمل هوية سورية!)، ولا يمكن أن أنسى مُصلى مكتبة الأسد الوطنية الأنيق.
الشاشة لم تعمل
أذكر في إحدى المرات أنني علمت مصادفة أن شيخاً معروفاً من علماء دمشق يلقي دروساً في إحدى الجوامع القريبة مني، فتحمست لحضورها، وأنا التي كنتُ أتابعه دوماً عبر وسائل الإعلام المختلفة. وقبيل بدء الدرس لم يكن في المصلى أكثر من 5 سيدات، اقتربت مني إحداهن لتسأل باستغراب: ألا يوجد هنا درسٌ للشيخ الفلاني؟ قلتُ بلى، فقالت أنا من الأردن وجئت هنا فقط لحضوره، أين الناس؟ شعرتُ بالخجل فأنا أيضاً لم أتوقع ألا أجد أحداً هنا!.
وما إن بدأ الدرس حتى تسمّرت عيناي على الشاشة المسطحة الحديثة الموضوعة على الجدار، والتي يفترض أنها لنقل دروس العلماء إلى النساء في القسم الآخر حيث نجلس هنا دون أن نراهم، ولكن الشاشة لم تعمل!، بينما انطلق كلام الشيخ إلينا عبر مكبرات الصوت!.
لا أستطيع أن أصف لكم حجم الإحباط والإهانة التي شعرتُ بها في ذلك اليوم وأنا أجلس أقابل الجدران فقط!، بينما اعتدتُ حضور دروس هذا العالِم بشكل مرئي ومسموع في منزلي بكل يُسر وسهولة عبر الانترنت، وبشكل مباشر إن حضرت له ندوة في إحدى المراكز الثقافية، ولم أتمكن من رؤيته لا بشكل مباشر ولا عبر وسيط حين قصدت دروسه في الجامع!.
أيخشون علينا من الفتنة لو رأيناه؟ إذن لمَ تكلّفت وزارة الأوقاف بوضع شاشات مسطحة وذات جودة عالية في مصليات النساء في كافة مساجد دمشق ولم أرَ مطلقاً إحداها تعمل لا في ذاك اليوم ولا في غيره؟! الآن عرفت لمَ لا تحضر النساء دروساً هنا، غادرت المسجد ولم أعد بعدها مطلقاً أجد احتراماً لنفسي.
مثال إيجابي
نختلط ذكوراً وإناثاً بشكل طبيعي وعفوي في معظم مناحي الحياة، في الأسواق والجامعات وأماكن العمل، والمواصلات…الخ، ثم ننفصل في دور العبادة! رغم أن الناس يصلون ويطوفون معاً ذكوراً وإناثاً في الحرم المكي، كما كانوا أيضاً يصلون معاً في مسجد واحد على زمن الرسول الكريم ويتابعون دروس العلم والخطب دون أي فاصل، وإن كانت الأوقاف ترى من الضرورة بمكان فصل الجنسين، فلابد أن يتم ذلك بشكل يحترم الجميع ولا يميز الرجال على النساء.
لابد أخيراً أن أشير إلى مثال إيجابي أتمنى يوماً تعميمه، وهو الجامع الأموي العريق، والذي يقصده الرجال والنساء مصلين وزائرين وطلاب علم بشكل يحترم حضور الجميع دون إهانة أو انتقاص لأحد، حرم واحد للصلاة، بحاجز وهمي يفصل قسم الرجال والنساء، يمكن للنساء أن يصلين ويتابعن دروس العلم من الشيوخ بشكل مباشر دون أن يحول بينهم شيء، وللأطفال أن يذهبوا ويجيئوا بين آبائهم وأمهاتهم دون عائق، وفي باحة الجامع أماكن خاصة للوضوء لكلا الجنسين، بينما وُضعت الحمامات خارج حرم الجامع لألا تؤذي رائحتها أحداً.
Leave A Comment