كتبت سارة مطر في العربي الجديد:
لم يُقنع عقد العمل الموحّد الخاص بالعاملات والعمال المنزليين الأجانب في لبنان، كثيرين من هؤلاء، أو الجمعيات الأهلية والنسائية والحقوقية، ممن يطلقون منذ سنواتٍ طويلة صرخات استغاثة بوجه نظام الكفالة، مع وصفهم له بنظام “العبودية الحديثة”. وفي هذا إشارةٍ إلى ما تعانيه هذه الشريحة من انتهاكاتٍ يومية من عنصريةٍ وظلمٍ وإجحافٍ بحقّها، فضلاً عن تعرُّض كثيرين منهم للاستغلال والعنف والتحرّش والاغتصاب، مع انتفاء أيّ حماية قانونية أو معاملة إنسانية لائقة، ومع تحوّل العديد من مكاتب استقدام العاملات والعمال إلى أماكن للترهيب والتعنيف.
العقد الذي أصدرته وزيرة العمل اللبنانية في حكومة تصريف الأعمال، لميا يمّين دويهي، أثار العديد من ردود الفعل، بين مرحّبٍ اعتبره خطوة أولى نحو إلغاء نظام الكفالة بشكل كامل إذا ما ترافق مع آليات مرنة قابلة للتطبيق، ومنتقدٍ رأى استحالة تنفيذه، لكونه يحتاج إلى إمكانات عالية أثبتت التجارب فشلها، داعياً إلى ضرورة اعتبار العاملات (الإناث هن الأكثرية بين العمال الأجانب الآتين عبر المكاتب) أجيرات يخضعن لقانون العمل اللبناني، عوضاً عن استثنائهنّ بعقد عمل موحّد.
وكانت منظمة “هيومن رايتس ووتش” قد كشفت في 27 يوليو/ تموز الماضي، عن أنّ “نظام الكفالة اللبناني الاستغلالي يحاصر بقيوده عشرات آلاف العاملات المنزليات المهاجرات في ظروف قد تؤدي إلى الأذى، إذ يربط وضعهنّ القانوني بأصحاب عملهنّ. وتعمل نحو 250 ألف عاملة منزلية مهاجرة في لبنان، معظمهنّ من بلدان أفريقيا وجنوب شرق آسيا، من دون أن تشملهنّ حمايات قانون العمل اللبناني”.
نحو إلغاء الكفالة
في حديثها إلى “العربي الجديد” تصف يمّين الدويهي العقد المذكور بأنّه “خطوة متقدّمة جداً نحو إلغاء نظام الكفالة، تكرّس الحقوق الاجتماعية لهذه الفئة من العاملين والعاملات، وتمنحهم حقوقهم الإنسانية البديهية والحماية اللازمة ضدّ أيّ انتهاك أو استغلال. ويُعتبر هذا العقد أساسيّاً، لأنّ البند الأهم حرية العاملة واحتفاظها بأوراقها الثبوتية وحقها بتغيير صاحب العمل وفسخ العقد بالإضافة إلى تحديد ساعات العمل الأسبوعية وأيّام الإجازات وغيرها. وقد أطلقنا كذلك الخط الساخن 1741 لتلقّي الشكاوى، إذ لا صلاحية لمفتّشي الوزارة بدخول المنازل”. وتقول: “على الرغم من انتقادات البعض لعدم إلغاء نظام الكفالة، غير أنّنا أنجزنا نموذجاً لاتفاقية يمكن تطويرها مع الدول المعنيّة، تسهّل وتنظّم عمل الأجانب في لبنان. ويُعدّ العقد رسالة واضحة تشير إلى حق العاملة الأجنبية بكل ما يُذكر بقانون العمل، ما يعني أنّنا نساوي بينها وبين أيّ عامل. وقد أنجزنا بنداً أساسياً، وهو تعديل المادة الـ7 من قانون العمل التي تُخضع العمل المنزلي لقانون العمل اللبناني، لكنّ هذا يحتاج إلى الإقرار في البرلمان، وستكون خطوة أساسية تلغي مشاكل كثيرة، وتفتح المجال أمام اللبنانيّين للقيام بهذا العمل، إذ يصبح عملاً لائقاً بدوام محدّد وضمان صحي، ويمنح الامتيازات والتقديمات الاجتماعية كافّة”.
آليات قابلة للتطبيق
تؤكد محامية قسم الاتجار بالبشر في منظمة “كفى” (غير حكومية، نسوية) موهانا إسحق، لـ”العربي الجديد”، أنّ “العقد الموحّد يضمّ معظم الحقوق الأساسية المكفولة ضمن المواثيق الدولية لعاملات المنازل، وهو طبعاً حجر أساس أوّلي يمكن أن يُبنى عليه مع خطواتٍ إضافية للوصول إلى الإلغاء الكامل لنظام الكفالة، لكنّه لا يكفي وحده”. وتضيف: “أهم الحقوق التي تضمّنها العقد، المساواة بين عاملات المنازل وغيرهنّ من العاملات والعمّال لناحية تحديد أجرهنّ بما لا يقلّ عن الحد الأدنى للأجور. كذلك، كسر العقد الموحّد كثيراً من الممارسات، إذ بات على صاحب العمل تأمين غرفة خاصة للعاملة مع مفتاحٍ خاص، بهدف احترام خصوصيّتها ومعتقداتها وتقاليدها وحريتها الشخصية، وأصبحت بحوزتها أوراقها الخاصة الرسمية من جواز سفر وإقامة وبطاقاتٍ وغيرها. كذلك، أعطى العقد للعاملة حق التنقّل والاستفادة من أوقات راحتها وأيّام عطلتها بشكل حرّ خارج المنزل، كما حقّها في إجازاتٍ سنوية ومَرضية وغيرها من الضمانات”. وترى إسحق أنّ “حق العاملة بفسخ العقد بإرادة حرّة منفردة يُعدّ بمثابة ضربة أساسية لنظام الكفالة، لكونه يضع بيد العاملة حقّها بتغيير العمل، فيما كان النص القديم يمنحها حق الفسخ عند بعض الانتهاكات، إذا تعرّضت للعنف أو امتنع ربّ العمل عن دفع أجرها الشهري بشكل كامل وعلى مدى 3 أشهر متتالية، لكن عمليّاً لم يكن هذا الحق يُمارس وبقي حبراً على ورق، وذلك لغياب آلية الفسخ وانتفاء أيّ مرجع تتمّ العودة إليه عند الفسخ وصعوبة إثبات تلك الانتهاكات”. وتختم محامية “كفى” بالقول: “لا يمكن تحقيق تغييرٍ جدّي وفعّال، إلا إذا أُرفق العقد بآليات مرنة قابلة للتطبيق، سواء لناحية آليات الفسخ أو آليات مراقبة التطبيق، وكذلك ضبط عملية استقدام العاملات المهاجرات”.
الحلّ بقانون العمل
من جهتها، تلفت المسؤولة الإعلامية في جمعية “فيمايل” (نسوية مدنية) فاطمة زين الدين، إلى أنّ “وزيرة العمل عندما غرّدت على تويتر، حول إصدارها عقد العمل الموحَّد الذي يلغي نظام الكفالة، يبدو أنّها لم تنسّق بذلك مع الجمعيات والمؤسّسات الشريكة في إعداد بنود هذا العقد. فكيف الحديث عن إلغاء نظام الكفالة واعتماد عقد عمل موحّد ما زالت آلية تنفيذه مبهمة حتى الساعة في ظلّ إجماع على عدم إمكانية تنفيذها أصلاً؟”. وتقول لـ”العربي الجديد”: “انطلاقاً من عملنا في مجال حقوق النساء والفتيات ودعم قضاياهنّ، ومن عملنا ضمن حملة مشروع بيتي العادل، بدعم من منظمة العمل الدولية، إذ ننشر من خلالها مواد خاصة تسلّط الضوء على أحوال عاملات المنازل المهاجرات وأوضاعهنّ القانونية والإنسانية، نؤكّد ضرورة إيجاد حلّ عادل لهنّ، واعتبارهنّ أجيرات يخضعن لقانون العمل اللبناني، عوض استثنائهنّ بعقد عمل موحّد يحتاج تنفيذه إلى إمكانات عالية أثبتت التجارب فشلها”. وتضيف زين الدين: “العاملات الأجنبيات اللواتي يعشن اليوم في الطرقات بلا مأوى ولا مال، ويخضعن لابتزاز مالي ونفسي وجسدي، لن يكفي لإنقاذهنّ عقد عمل موحّد ما زالت آليات تطبيقه غامضة، بل كان الأجدى تطبيق قانون العمل ليتماهى مع الاتفاقية 189 الخاصّة بالعمل اللائق للعاملات في الخدمة المنزلية، التي صوّت عليها لبنان خلال مؤتمر منظمة العمل الدولية عام 2011، كما الأجدى تصديق هذه الاتفاقية لتتماهى مع القوانين والتشريعات وتُدرج في قانون العمل، بما يحفظ حقوق العاملات المنتهكة منذ سنوات”. وتتساءل: “وزارة العمل التي تتلقّى شكاوى العاملات على الخط الساخن، هل تدخلت لاسترداد أجورهنّ؟ أو لتحسين أوضاعهنّ؟ أو اكتفت بوضع الكفيل على اللائحة السوداء؟ وهل ستمتلك العاملة المنزلية لاحقاً القدرة والمعرفة التي تخوّلها التقدّم بشكوى إذا عمد الكفيل إلى انتهاك حقّها؟”.
صوت العمال
تشير عاملة إثيوبية تركت عملها منذ أيام، بسبب سوء المعاملة والذل والاحتقار الذي كانت تتعرّض له وفق قولها، لـ”العربي الجديد” إلى أنّها لم تسمع بالعقد الموحّد، “لكنّني متأكّدة أنّه سيكون مجرّد كلام لا يُطبّق، لقد أصبحنا خبراء بالوضع اللبناني، ولا نريد قرارات وعقوداً لا تلغي نظام الكفالة الجائر نهائياً، ولا سيّما أنّ هذا النظام يسمح لأرباب العمل باستباحة حقوقنا واستغلالنا وجني الأموال عبرنا. وفي حال الشكوى للمكتب، لا نجد سوى التعنيف والضرب”. توضح أنّ المنزل الأخير الذي تعرّضت فيه للإهانة، كانت تُمنع من قبل أصحابه من الخروج، أو حتى من استخدام بعض المواد الاستهلاكية والغذائية، كما كانت تُحرم الاتصال بأهلها إلّا إذا كان ذلك على حسابها. ولم تحظَ بإجازة أو دوام عمل محدد الساعات، علماً أنّ “ابنة صاحب البيت موظفة ينتهي دوامها، وأنا لا ينتهي دوامي. فهل هذا عادل؟”.
العاملة التي تعمل في لبنان منذ 6 سنوات تنقّلت خلالها من بيتٍ إلى بيت، ما زالت على اسم كفيلتها الأولى التي تحتجز جواز سفرها وجميع أوراقها الثبوتية وتهدّدها بالسجن، علماً أنّها تعرّضت لديها لتعنيفٍ شديد وتعاطٍ غير إنساني، أوصلها بعد 6 أشهر إلى محاولة الانتحار. وتشير إلى أنّها كانت تعمل في السودان، ولم تتعرّض لإجراءات أو معاملة سيئة، بل كانت تتمتّع بحريّتها، وجواز سفرها بحوزتها، وعلاقتها مع الدولة مباشرة وليست مع الكفيل، غير أنّ أحد المكاتب وعدها بالانتقال إلى إيطاليا للعمل ومتابعة دراستها، فوجدت نفسها في لبنان بعدما وقعت ضحية النصب والاحتيال والاستغلال.
عامل فيليبيني يعمل وزوجته في منزلٍ في بيروت منذ ثلاثين عاماً، يسأل قبل كلّ شيء: “هل أُلغي نظام الكفالة؟”، مضيفاً: “لا فكرة لديّ عن إقرار العقد، ولا حتّى عن تفاصيله، لكن ربّما تولّت السفارة إرسال نسخ من العقد إلينا”. وإذ يلفت إلى أنّه يُعامل معاملة جيدة من قبل أصحاب العمل، يقول لـ”العربي الجديد”: “هناك العديد من العاملات والعمّال الذين يعانون من نظام الكفالة في لبنان، ما يحتّم أهميّة إلغاء هذا النظام للحدّ من المشاكل والانتهاكات، ومن أساليب حجز حريّاتهم والتحكّم بجواز سفرهم وأوراقهم الثبوتية”.
امتعاض مكاتب الاستقدام
في المقابل، تبدي وفاء، الشريكة في أحد مكاتب استقدام عاملات المنازل في بيروت، امتعاضها من بعض بنود العقد الموحّد، ولا سيّما منح العاملة الحقّ في الاحتفاظ بجواز سفرها وأوراق الإقامة والإجازة وغيرها، متسائلةً: “ماذا لو سرقت العاملة صاحب البيت أو تعرّضت لامرأة مسنّة وغادرت البلاد، فمن يمكن أن يلاحقها أو يحاسبها حينها؟”. تضيف: “لن نقبل بإعطاء الأوراق الثبوتية للعاملة، إذ بإمكانها التواصل مع سفارة بلدها أو المكتب في حال تعرّضها لأيّ انتهاك. وسنصدر، كمكاتب استقدام عاملات، بياناً مشتركاً نفصّل فيه البنود التي نعترض عليها”. وتوضح لـ”العربي الجديد” أنّها “مع الإبقاء على نظام الكفالة، وأنّ الكلام عن تحكّم الكفيل بالعاملة لا يعدو كونه نسبة قليلة”. وتشير إلى أنّه “ما من مشكلة لناحية تحديد توقيت العمل والعطلة الأسبوعية، إذ إنّ عمل المنزل يمكن إتمامه صباحاً، وإذا لم ترغب في العمل مساءً، فهذا حقّها، وهي بالنهاية إنسان، ويمكنها متابعة العمل في اليوم التالي”.
وإذ تعترف وفاء بـ”استغلال بعض المكاتب للعاملات وعدم اهتمامها بأحوالهنّ”، تؤكّد أنّهم كمكتب متخصّص في هذا المجال يحرصون على “متابعة أحوال العاملات ومدى رغبتهنّ بتغيير مكان العمل. كذلك فإننا نستكشف وضع البيت قبل استقدام العاملة، ونأخذ موافقتها ونُعلم صاحب العمل بمواصفاتها وشخصيّتها. ولغاية تاريخه لم نشهد أيّ حادثة هروب أو سرقة ارتكبتها أيّ عاملة من العاملات لدينا”.
بدوره، يتشارك صاحب مكتب آخر في محافظة جبل لبنان، فضّل عدم ذكر اسمه، الرأي نفسه تجاه العقد، معتبراً أنّه “لا يحمي العاملة بتاتاً، إذ يمكنها فسخ العقد ساعة تريد والخروج من المنزل، فماذا ستفعل في الخارج؟ وكيف لعاملة تعمل في القرى اللبنانية أن تخرج يوم الأحد في عطلتها الأسبوعية، حيث لا مواصلات؟ ألا يدعو ذلك للقلق ويعرّضها للخطر؟”. وعن الانتهاكات والاستغلال الذي تتعرّض له العاملات، يرى أنّ “النسبة ضئيلة جداً، وفور حدوث أيّ مشكلة يجري عادةً التواصل مع المكتب الذي يعالج بدوره المشكلة أو يغيّر صاحب العمل، لكن مع العقد الجديد لم تعد العاملة بحاجة إلى المكتب، وبات دورنا بلا معنى، وهو خطوة نحو إلغاء دورنا، وليس فقط إلغاء نظام الكفالة، علماً أنّ استقدام العاملات يتطلّب الخبرة والدراية في هذا المجال، ولا يمكن أيّاً كان القيام بهذا الدور”.
Leave A Comment