«أنا مع النِسوية، ولكني ضد التطرف النِسوي!». لطالما سمعتْ النِسويات هذا التأييد الملحوق مباشرةً بذلك التحفظ. وطبعًا جميعنا نحاول ألا «نتطرف». نحاول أن نتكلم بتروٍ قدر الإمكان، ونصلي على النبي قبل أن نكتب أي شيء على وسائل التواصل الاجتماعي، ونعيد ترتيب أفكارنا قبل نشرها، كي لا نظهر بمظهر البائسات والكارهات للرجال، ونخسر أكثر مما نحن خاسرات.
السؤال الذي صرت أطرحه مؤخرًا حين أواجه ذلك التحفظ هو: ولكن كيف ترى التطرف النِسوي؟ ألا ترى معي أن «التطرف النِسوي» كلمة مطاطة جدًا، وقد تشمل كل شيء تقريبًا؟ ألا ترى معي أن في الإلحاح على مسألة التطرف يكمن خوفٌ دفينٌ من أن تكون النِسوية محقةً في مطالبها، وتحقق ما تصبو إليه؟ فعلى سبيل المثال، البعض يرى في المطالبة بالمساواة في الإرث ومناقشة تعدّد الزوجات تطرفاً، والبعض الآخر يرى في إلغاء قانون الأحوال الشخصية كاملًا والمطالبة بدستور علماني تطرفًا، والبعض يرى في نقد بنية الأسرة الذكورية تطرفًا، والبعض يرى السفور أو مجرد مناقشة ظاهرة الحجاب تطرفًا، والبعض يرى في اللقاءات التي تضم النساء حصرًا بغرض منحهن مجالًا لاكتشاف ذواتهن وتبادل الخبرات وفي جميع أشكال الاحتفاء بالأنوثة تطرفًا، والبعض يرى في رقص النِسويات وكل تعبيراتهن الجسدية وفي الكلام عن الحرية الجنسية للمرأة تطرفًا. والبعض يرى أن النِسوية من بابها إلى محرابها تطرفًا بتطرف، فراحوا يشبهوننا بالدواعش. للأسف الناس «حساسون» جدًا من هذه الناحية، حتى صرنا كمن يمشي على بيض أو في حقل ألغام. كلما قلنا كلمة، ندوس على طرف أحدهم.
ولكن دعونا نحاول الإجابة على هذا السؤال: هل النِسوية السورية متطرفة فعلًا؟ من ملاحظاتي العامة يمكنني الجزم أن السواد الأعظم من النساء والنِسويات السوريات أقرب إلى المحافظة من أن يطرحن أمورًا كالتي ذكرتها فوق بشكل مباشر. كثيراتٌ ما زلن عالقاتٍ بشكلٍ أو بآخر بالأجندة التي وضعها الرجال للنضال، والتي لا تأخذ وضع المرأة بعين الاعتبار، وما زلن يعتبرن قضيتهنّ ثانويةً بالنسبة للهمّ العام. وبعضهنّ ما زلن يصدّقن أن أي طرح نِسوي مستعجل سوف يعطل الأولويات. كما أن الأغلبية، حتى العلمانيات، يحاولن أخذ الميل الوسطي للناس بعين الاعتبار، ويخشين من اتّهامهن بالكفر والزندقة في حال ناقشن الأديان. وكثيراتٌ يبتعدن عن أي جدالٍ عام خشية أن يصبحن عرضةً للهجوم الشرس على حياتهن الخاصة. كثيراتٌ غير قادرات على البوح بعذابات أنوثتهن، ويكبتن ذاكرتهن، خشية أن يُعاقبن مرةً أخرى إن خرجت للعالم. كثيراتٌ ما زلن يتعرّضن للعنف المعنوي، وأحيانًا الجسدي، من عدة جهات، وغير قادراتٍ على الإتيان بحلول لمشاكلهنّ الخاصة، فما بالك لمشاكل النساء الأخريات. كثيراتٌ ما زلن مستهلكَاتٍ ومُستنفذَاتٍ ومرهقَاتٍ جراء الحرب ومتطلبات الحياة، بحيث لا يجدن الطاقة للشغل على قضيتهن النِسوية العامة. أين يكمن التطرف إذن؟
وإن أردنا البحث في التطرف النِسوي، لا بد أن نلقي أيضًا نظرة على وضع المرأة العريية والسورية على وجه الخصوص. لا أعتقد أن أحدًا سوف يجادلني إن قلتُ إن وضع المرأة في منطقتنا بغاية التردي، وقد ازداد بؤسًا جراء الحرب والأوضاع السياسية القلقة للبلاد. ما عدا الظلم على المستوى القانوني والسياسي والصحي والتعليمي والاقتصادي، ثمة موروثات وتقاليد دينية وغير دينية تسعى لتقديس دونية مكانة المرأة، والحد من تطورها وحرية حركتها. وما زالت نسب العنف ضد المرأة مستورة، لندرة الإحصاءات، وقلة الاهتمام الحقيقي بتلك الأرقام. وحين نقول «عنف» لا نقصد فقط صفعةً عابرة، أوعنفًا رمزيًا في اللغة، وإنما كذلك حالات اغتصاب وتحرّش وقتل وتضييق يفضي إلى الإنتحار. أليس هذا هو التطرف بعينه؟ حتى أن الباحثات اكتشفن في بعض الاستطلاعات الصغيرة أن جميع المستجيبات السوريات بدون استثناء قد تعرضن لنوعٍ من أنواع العنف الجسدي أو النفسي. العنف ضد المرأة منتشرٌ في جميع شرائح المجتمع، الثرية والفقيرة، المثقفة وغير المثقفة، المعارضة والموالية، ومع ذلك مطلوبٌ من النِسويات ألا يغضبنَ، ويظلن لطيفات، لا بل جذابات في طرحهنّ للمواضيع التي تهمهنّ. إن رفعنَ أصواتهن، أو أشرن إلى المستفيدين من المعادلة الذكورية، سوف يوصمنَ بالتطرف، وينفصلن عن المجتمع.
برأيي حتى أكثرنا غضبًا، وأقلنا تكتيكًا، أي صاحبات الخطاب الاستفزازي -وهن حسب ملاحظتي معدودات على أصابع اليد الواحدة- يطرحن أمورًا معقولة ومحقة، إلا أنها تستدعي ردودًا عكسية قد نكون في غنىً عنها. ولكن هذا ليس لأنهن متطرفات، وإنما لأنهن استغنينَ، وشرعنَ يتناولن أشد الأمور حساسية، وتجرأنَ على تجاوز الخطوط الحمراء التي تقيّد وعينا ولا وعينا، وجهرنَ بالحقيقة الفجة والقبيحة والتي لا يريد سماعها أحد، وأفصحن بأسلوبٍ نفزعُ منه حتى نحن النِسويات. هؤلاء تنصبّ على رؤوسهن كمياتٌ كبيرةٌ من القيح المجتمعي. موضوع العنف ضد المرأة ذو حساسية عالية أينما أتيته، لذلك لا أظن أنّ المشكلة تكمن فيهنّ، وإنما جاء خطابهنّ كردة فعل غاضبة على الواقع المزري. لن يذهب عملهن سدىً برأيي، لأنهنّ يملأن شاغرًا من الساحة النِسوية الكبيرة والمتنوعة. بعض الجدران المصمتة لا تزول بالتربيت عليها فقط.
أجل، نحن نعاني من جهلٍ كبير بتاريخنا وبالأدوات والاستراتيجيات النِسوية، ويقع بعضنا في فخ التعميم، ولكن ليست هذه سوى أخطاء بشرية فردية نحتاج للشغل عليها وتشذيبها. ولا بأس أن نتروى أحيانًا لنستخلص الدروس. غير أن انطباعي هو أن تهمة التطرف ليست أكثر من فزّاعة، كي ننشغل بالشكل أكثر من المضمون، كي يضعُف زخمنا ونبقى تحت السيطرة. صدقوني، لا توجد امرأة نِسوية واحدة لم تعانِ من ذرّ الرماد في العيون، فيحصل أن تتأخر في انطلاقتها خوفًا، أو تتخلى.
واللافت أن تهمة التطرف تأتي أحيانًا من أشخاص نودّ لو كانوا حلفاءً لنا في النسوية، لاتساع معرفتهم أو لشعبيتهم. ولكن قبل أن يعبّر هؤلاء عن تضامنهم، لا بد أن يضعوا عصًا أو اثنتين في الدواليب، ويذكروا تحفظاتهم على تطرفٍ مزعومٍ لم يقترب منهم بأي حال. يتخذون موقفًا وسطيًا فاترًا يرضي أكبر عددٍ ممكن من التيارات، أو يعوّمون المشكلة عبر الإشارة إلى بنيويتها ونسبها إلى تاريخٍ صعب التغيير. يطمحون إلى قلب العالم في ثورتهم على الاستبداد السياسي، ولكنهم لا يسمحون للحركة النِسوية أن تتجاوز عتبات البيوت. يرفضون مثلًا أن يجري الشغل على مستوى الأفراد، مع أن المستفيدين معلومون وهم أناسٌ مسؤولون ومعظمهم واعون جدًا لمصالحهم. لماذا لا يمكن أن يعلن هؤلاء المثقفين عن تضامنهم العميق مع النِسوية؟ برأيي ثمة سببان على الأقل، أولهما ضرورة حفظ ماء الوجه، فالنِسوية تهمةٌ تلاحق الجميع ولا تفرق كثيرًا بين رجلٍ وامرأة. وثانيهما الخوف من التفريط بالامتيازات. وهم محقّون في ذلك، لأنّ كلّ خطوةٍ منهم سوف تستدعي خطوةً تالية، فالنِسوية بطاقة ذهابٍ من دون إياب. سيرٌ في اتجاه واحد.
فضلًا عن ملاحظتي أن ثمة خلطًا كبيرًا بين التطرف والجذرية. نحن جذريات، ولسنا متطرفات، فلا واحدة منا حملت السلاح، ولا واحدة منا قامت بعملية انتحارية، وحالات العنف المنزلي التي تقوم بها النساء نادرة، ولا تنفّذ من قبل النِسويات. كما أن العنف والنبذ والأحكام المسبقة التي نواجهها أضعاف مضاعفة لما نبثّه حولنا. كل ما هنالك أنه لا فائدة من الطروحات السطحية والتجميلية والتي لا تمسّ امتيازات الرجال في شيء. نحن نعالج مسألةً تمسّ الطبقات الأعمق التي انبنى عليها مجتمعنا، وأيّ تحركٍ فيها سوف يولّد هزاتٍ صغيرةً وكبيرة في القطاعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية وحتى الدينية. أتمنى من النِسويات ألا يتخلّين عن جذريتهنّ خشية أن يظهرن متطرفات. فالتطرف شيء، والجذرية شيءٌ آخر. التطرف له علاقة بالأطراف، والجذرية بالجذور. وإن لم نصل للجذور، فلن نصل أبدًا.
ومع ذلك أتفاءل، فالمعمعة التي نشأت إثر نشر امرأةٍ سورية لفيديو حول العنف المنزلي الذي تعرضت له، ليست سوى مؤشر على اشتداد عود النِسوية شيئًا فشيئًا. وقد تعتبر الوعكة التي أصابت الذكوريين دفعةً واحدةً بشارة خير. بدأنا نطرح أنفسنا بقوة، كل ما علينا الآن هو مزيد من الشغل على أدواتنا ومعارفنا العامّة والنِسوية، كي نكون قادراتٍ على النقاش والجدال بقلبٍ بارد. لا بد أن نتعب أحيانًا، فنستريح، فنواصل المسير.
Leave A Comment