وصف خبراء حقوق الإنسان “اتفاقيّة اسطنبول2011م” بأنها “المعيار الذهبي لحقوق المرأة”، حيث تضمّنت هذه الاتفاقيّة الدولية توجيهات قانونيّة واجتماعيّة لكيفيّة الحدّ من العنف تجاه المرأة، ومنعه ومكافحته وبكافة أشكاله وأينما وُجد، كما اعتُبر أوّل صكٍّ مُلزم في العالم لوقف العنف ضد المرأة، بما فيه التحرش والاغتصاب الزوجي، إلى تشويه الأعضاء التناسلية للإناث (الختان)، ولهذا يمكن اعتبار هذه الاتفاقيّة انتصاراً للعدالة التي تعتبر المساواة في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة أهمّ شروطها، ولكن ماذا لو تنكّر البعض لهذه العدالة أو انقلب عليها؟ ألا يفتح ذلك الباب على الكثير من الإشارات، وأوّلها أنّ هناك من يحاول دائماً إفقاد العدالة قوّتها وفاعليتها؟
أعلنت بولندا قرار انسحابها من اتفاقية اسطنبول في نهاية الشهر السابع من هذا العام، وبعدها بأيام قليلة تبعتها تركيا، قد يبدو تزامن قرار انسحاب كلّ من بولندا وتركيا من اتفاقيّة اسطنبول تزامناً اعتباطياً، ولكن بالعودة إلى الوراء نجد أنّ بولندا “العضو في الاتحاد الأوروبي”، قد وقّعت على هذه الاتفاقيّة العام 2012 في ظل حكومة وسطية، بينما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي كان يسعى لقبول تركيا كعضوٍ في الاتحاد الأوروبي، فعل الكثير لتحظى تركيا بعقد هذه الاتفاقية الدوليّة على أراضيه العام 2011 م، وكان أوّل الموقّعين عليها، ولكن خلال السنوات الماضية كان هناك جملة من المتغيرات طرأت على البلدين، قد يكون أهمّها النفوذ المتزايد لأحزاب اليمين، والتي لا يروقها الكثير من الأمور ومن ضمنها هذه الاتفاقية.
فمن اللافت أنّ الأسباب التي قدمتها كل من حكومتي بولندا وتركيا للانسحاب من اتفاقيّة اسطنبول متشابهة حدّ التطابق، فكلاهما أعلن أنّ هذه الاتفاقيّة تشكّل خرقاً لحقوق الوالدين، وتسعى إلى تفكيك الأسرة وهدمها من خلال تشجيعها على الطلاق، كما أنّ مضامين الاتفاقيّة على حدّ زعمهما تُطوّر غريزة عقائدية عند كلٍّ من الذكر والأنثى، لا تكنّ احتراماً للدين المسيحي في بولندا، والإسلامي في تركيا، كما أنهما اعتبرتا حصص التثقيف الجنسي مرفوضة في مدارسهما، لأنها تدعم أفكار مغايرة وفاضحة عن الجنس لا تُناسب العقائد والتقاليد والدين.
في الوقت نفسه دحضت أحزاب المعارضة في كلا البلدين الأسباب السابقة في بياناتها من عدّة نقاط أهمها: “يدّعون أنّ الاتفاقية تمحو الهوية الجنسية للمجتمع وهذا خاطئ، فالاتفاقية تهدف لمعالجة المشاكل الناتجة عن عدم المساواة الجنسية القائمة في المجتمع. يدّعون أن الاتفاقية تخرّب البنية الأسرية وتهدمها وهذا غير صحيح، فالاتفاقية تسعى لحماية المرأة من العنف الممارس ضدها من قبل الرجل. يأخذون على الاتفاقية القيام بمحاكمة الرجل دون دليل وبالاستناد على ادعاءات المرأة فقط وهذا غير صحيح، فالاتفاقية تضمن حماية المرأة فقط وبشكل عاجل عند الضرورة، أمّا محاكمة الرجل فتتمُّ في محكمة مستقلة، يتقرر فيها الحكم بناءً على الأدلة والإثباتات. يدّعون أنّ الاتفاقية تشجع على الطلاق وهذا غير صحيح، فلا يوجد أي مادة في الاتفاقية تشجع على الطلاق، إنما الطلاق يحصل نتيجة العنف الأسري وعدم المساواة بين الجنسين”.
بالإضافة إلى ذلك أظهرت مؤسسة الأبحاث “متربول” أنّ 17% فقط من الأتراك يؤيدون انسحاب الحكومة التركيّة من الاتفاقيّة وفقاً للاستطلاع الذي أجرته في تموز (يوليو) الماضي، مما يتناقض مع تصريح حزب العدالة والتنمية التركي، بأنّ: “كل الأتراك يدعمون اختياراتنا ووقوفنا خلف عادتنا وتقاليدنا”، كما أنّ المظاهرات التي ضمّت آلاف البولنديين جاءت لتكذّب ما صرحت به حكومة بولندا، بأنّ “الإصلاحات التي قدمتها الحكومة البولندية خلال السنوات السابقة توفر حماية كافية للنساء من دون الحاجة للجوء إلى هذه الاتفاقية”، كما طالت حزبي “القانون والعدالة” البولندي، و”العدالة والتنمية التركي” موجة تنديد واسعة وصفتهما بأنهما “جحيم النساء”، و”مشرّعي العنف”.
وعلى الرغم من إبداء المجلس الأوروبي استعداده لمناقشة التصورات الخاطئة إن وجدت، أو توضيح المفاهيم غير الواضحة، وتأكيده على أنّ الهدف الوحيد لاتفاقية اسطنبول هو مكافحة العنف ضد المرأة، لكن ذلك لم يثنِ البلدين حتى الآن عن قرارهما، وهذا ما يجعل أسباب الانسحاب من الاتفاقيّة حججاً واهية تختبئ خلفها أجندات سياسية ودينية متطرفة، فحزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا وشركاؤه في الائتلاف بالتعاون مع الكنيسة الكاثوليكية يحاولون تعزيز أجندة اجتماعية محافظة، وعندما بدأت تتلاشى طموحات تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي بصفة عضو دائم وكامل، انقلب أردوغان على هذه الاتفاقيّة وعلى غيرها، ووصف المساواة بين الجنسين على أنها ضد الطبيعة البشرية، بعد أن كان قد وصف تلك المعاهدة بأنها دليل على الدور القيادي لأنقرة في مجال حقوق الإنسان.
لو كان قرار انسحاب الدولتين من اتفاقية اسطنبول محقاً، فهل كنّا سنشهد ــــ كما تثبت التقاريرـــــ ارتفاع معدلات العنف والعنف الموجّه ضد النساء فيهما؟ المشكلة لا تكمن في قرار الانسحاب بحد ذاته، بل بالأجندات التي تحرّك هذا القرار، فعندما يتم رفض أمر ما، فهذا يعني أنّ هناك بديلاً أفضل وأنجح لمعالجة الأمر، ولكنّ الحجج الواهية التي قدمتها كل من بولندا وتركيا، والتي تقف وراءها الطموحات السياسية التسلطيّة لأحزاب اليمين ومتزعميها، أسهمت وتسهم في ارتفاع معدلات العنف ضد النساء، فهي بتكريسها لصورة المرأة النمطيّة، عبر منابر دعايتها الواسعة، تشجع الأنا الذكورية على الانتفاخ والتوّرم، مما يضاعف قابليتها وشهيتها للعنف بحق المرأة والرجل على السواء، ويفسح المجال واسعاً للتطرّف وفي كل الاتجاهات.
مقاربة النموذج البولندي والتركي لا يعني إشاحة الوجه عما تغرق به مجتمعاتنا، خاصةً وأنّ العنف الممارس على المرأة في مجتمعاتنا التي رفضت أساساً التوقيع على هذه الاتفاقية، قد يكون أكثر بكثير مما لديهم، كما ليس المقصود أن نبرّر أخطاءنا بأخطاء الآخرين، ولكن هذه المقاربة وما سبقها من مقاربات في مقالاتٍ سابقة ترتكز على أنّ العنف يمكن أن يحدث في أيّ مكان ينتعش فيه الإقصاء والتطرّف والسياسات الداعمة لهما، وسيدفع الجميع، جميعنا، ضريبة ذلك عاجلاً أم آجلاً، فأيّ تشريعٍ للعنف هو انتهاكٌ للرجل مثلما هو انتهاكٌ للمرأة، انتهاكٌ لحقّ الطفل ونموّه؛ لأنّه في المحصلة إهانة للتربية وإهانة للحياة.
Leave A Comment