روى أريسطوديمس أنه لقى سقراط يومًا نظيف الوجه، حسن الهيأة، فسأله عن حاله ولأي غرض خرج عن حده في التزيين والتجمل. فقال سقراط: دعاني أجاثون إلى وليمته، فلم ألبِّ دعوته أمس لاجتماع قوم من الغوغاء عنده، واليوم قصدت أن ألبي دعوته، وأما عن تزييني فاعلم يا أريسطوديمس أنه ينبغي لك أن تتجمل إذا أردت أن تدنو من أرباب الجمال.
وضع الحب على بساط البحث والمناقشة بين الحاضرين، وكانت هذه الآراء البديعة التي تدور حول فلسفة الحب وقد تليت كعبارة عن خطابات من قبل الحاضرين للتعبير عما وصلت إليه فلسفتهم حول الحب.
تمت ترجمة المحاورة من قبل محمد لطفي جمعة، ونشرت عام 1920 في كتاب يضم إلى جانب المحاورة بحثًا عن الفلسفة اليونانية وأعلامها مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو تحت عنون “مائدة أفلاطون.. كلام في الحب”.
الحب والفضيلة
يخطب فيدروس ويصف الحب بأنه رب عظيم قادر، والحب موضع إعجاب الأرباب والناس لعدة أسباب أهمها منشأه وأصله، فالحب من أقدم الآلهة وليس له والدان ولم يقل أي شاعر من الشعراء بأن هناك ربًّا يماثل الحب. ثم يشير إلى أن الفوضى سادت الكون ثم خلقت الأرض وتلاها الحب في الخليقة.
اتفق الحكماء على أن الحب من أقدم الأشياء ومنبع السعادة والمنافع والشرف للإنسان، والحب يوقظ في نفوس البشر عاطفة الخجل وعاطفة التفاني، وهذه العواطف ليست مقتصرة فقط على الأفراد بل تشمل الشعوب والجماعات. ويقول فيدروس إنه “بدون هاتين العاطفتين لا يمكن لأحد القيام بالأعمال العظيمة والجميلة”.
يضرب فيدروس مثلًا لذلك بقوله “إن العاشق إذا اقترف إثمًا في حضرة من يحب فإن ألمه من الخجل من محبوبه يكون أشد وأقسى مما لو كان أمام أهله وأقاربه وصحبه وسواهم يشهدون مذلته”. وكذلك يسرد فيدروس أنه إذا ارتبطت قلوب فئة قليلة أو كثيرة برباط المودة وكونت حكومة أو جيشًا محاربًا، فلا ريب في أن ما بينهم من روابط الود يدعوهم إلى أداء ما يجب عليهم حق أداء، فلا يسود بينهم الخلاف والحسد والأحقاد ويبتعدون عن الشهوات المؤدية إلى فساد أمورهم وانحلال رابطتهم.
الحب عند فيدروس منبع التضامن القوي، فلا يمكن للإنسان المحب أن يستسلم للعدو لأن خجله من أصدقائه أشد عليه وأقسى من ضرب السيوف، لذا يفضل الفارس حينها أن يموت ألف مرة على أن يهرب تاركًا وراءه أحبابه يجرعون كؤوس الموت. والحب يوحي بالفضيلة حتى للشخصيات الوضيعة، لأنه ينفخ في الروح قوة المحبة للرجال والنساء.
يروي فيدروس عن تفاني امراة نفخ الحب في قلبها وبذل نفسها فداء زوجها فأعجبت الآلهة بهذا الحب فأنقذوها من العذاب الأليم مما يدل على تقدير الأرباب للإخلاص والتضحية. وفي المقابل يروي فيدروس عن رجل قد تملكه الجبن والضعف عن فداء محبوبته، فما كان من الآلهة إلا أن قضوا عليه بأن يموت قتلًا بأيدي النساء.
يكمل فيدروس ساردًا قصة آخيل وكيف أسكنته الآلهة دار النعيم جزاء شجاعته وإخلاصه في صداقته. وقصة آخيل هي كالتالي: هيكتور قتل باتروكلس صديق آخيل، ولذا كان على آخيل الإنتقام لموت صديقه بقتل هيكتور، لكن النبوءة قالت له “إن حياتك معلقة بحياة هيكتور، إن مات هيكتور ستموت بعده”، ولكن أخيل اختار الانتقام لمقتل صديقه ومجد اليونان ذلك الإخلاص وتلك الصداقة.
طبيعة الحب
ثم جاء دور بوسانياس، فاستهل خطابه بالقول إن الحب ليس نوعًا واحدًا بل أنواع. ويرى بوسانياس أن هناك حبين لا حبًّا واحدًا، فالطريق إلى الحب لها أهمية بالغة، ويشير إلى أن كل فعل من الأفعال هو مجرد بطبيعته عن صفتي الخير والشر، ويضرب مثالًا أن شرب الخمر ليس صفة فيها من الخير أو الشر بشيء، لكن الطريقة التي يشرب بها الإنسان هي التي تحدد طبيعته وتصبغه بالخير أو الشر!
فالمبدأ بالنسبة لبوسانياس “ما نحسن فعله بقطع النظر عن طبيعته يعد خيرًا، وما نسيء فعله بغض النظر عن طبيعته يعد شرًا”. ويشرح في محاورته أن الحب لا يمكن أن يعتبر بذاته شريفًا أو غير شريف، ويفسر أنه “إن كانت طريق الحب شريفة فهو شريف، وإن كانت الطريق غير شريفة كان الحب كذلك”.
ليست سائر أنواع الحب كلها جميلة، وإنما سيد أنواع الحب هو الذي لا يصيبنا بالإهانة بل يزيدنا شعورًا بالعزة. ويقسم الحب إلى قسمين، الأول “حب تعرفه العامة من الناس وتمارسه كالبهائم لما فيه من الشهوات الدنيئة، وهذا النوع من الحب خاص بالطبقات الدونية من البشر، لأنهم يعبدون الأجساد ولا يأبهون للنفوس ويفضلون الجهل على العلم ويستهينون بالشرف والجمال”.
بينما النوع الثاني يوحي بالنقاء والإخلاص ويبتعد عن الفساد والشهوات، وعباد هذا النوع يعشقون القوة والجمال في العقل والجسم والنضج. ويشير بوسانياس إلى أن هؤلاء مهما تغير الزمن عليهم يلتزمون بعهود المودة والإخاء والطهر والشرف والرقي.
نقطة أخرى في خطاب بوسانياس قوله إن “أشرف الحب ما كان جهرًا لا سرًا، خصوصًا لأصحاب النفوس القوية والعواطف المشتعلة، وأشرف أنواع الحب ما كان لأجل الفضيلة وكمال النفس، والحب الشريف يقتضي أن يحرص المحب على محبوبه ويرعاه ليبقى طاهر النفس”. والحب برأيه وحده مسبب الألفة وموحد القوة حيث أن الظلم والاستبداد يمكن محاربتهما وهزيمتهما بالحب.
يقتضي شرف الحب أن يسعى المحب في نيل رضى محبوبه بوسائل عجيبة غريبة، ولو استخدم العاشق هذه الأساليب مع الناس لتعرض لأقسى أنواع الملامة والذم والسخرية، فالناس يلومون البخيل لجمعه المال ويذمون من يسخر نفسه للعبودية والتملق للحصول على المناصب، بينما إذا فعل العاشق هذه الأفعال فإنه يكون مقبولًا ولا يخشى على كرامته، وحتى يقال إن الآلهة تصفح عن العاشق إذا حنث في يمينه وتمنحه أعظم ما يمكن من العفو والرحمة.
كذلك من قلة الشرف الوقوع في الحب مباشرة دون إعطاء الوقت الكافي للتحقق من المحبوب والتأكد من خلقه، أو جذب المحبوب بالمال أو القوة أو الخوف من كلام الناس فيهجر محبوبه.
الحب والانسجام
يبدأ أريكسماكوس الطبيب محاورته بالقول “الحب الذي يدفعنا نحو ذوي الجمال ليس موجودًا في نفوس البشر فقط بل في سائر المخلوقات”. ويربط الطبيب في محاورته بين الطب والحب، فيشرح أن طبيعة البدن تحتوي على نوعين: المريض والسليم من الأعضاء، والنوعين لا يستويان فحب البدن السليم غير حب البدن المريض، ومن الشرف تمجيد الأجزاء الطيبة السليمة في الجسم لأنها تدل على الانسجام.
ويعطي أريكسماكوس أهمية للانسجام فيقول إن الطب والموسيقى والزراعة والرياضة البدنية وغيرها من مظاهر الحياة كلها تسير بانسجام الحب الطاهر، فكما الأصوات الحادة والثقيلة والأوزان السريعة والبطيئة تنتج الانسجام والنظام وفقًا لفن الموسيقى، وكذلك الشعر وتأليف الأنغام والأغاني وترتيبها، وكما أن فصول السنة والحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة مؤلفة طبقًا لقاعدة الانسجام، فهي تجلب الصحة والنضج للبشر ولسائر أنواع الحيوان والنبات. وأما إذا ساد الحب الخبيث غير المنسجم فسيعم الخراب.
قوة الحب
يستهل أريسطوفانس محاورته بالقول إن طبيعة الإنسان في غابر الأزمان لم تكن طبيعة ثنائية فقط (ذكرًا وأنثى)، بل كان يوجد جنس ثالث يسمى (الخنثى) وهو جنس مشترك بين الذكر والأنثى، وكان يشبه في شكله المرأة والرجل معًا. ويصف الفيلسوف شكل الخنثى بأن “جسد المراة والرجل ملتصقان الجانب إلى الجانب، وله أربعة أذرع وأربعة أرجل ووجهان مركبان على عنق مستدير وأربعة آذان”.
وتشير الأسطورة كما يرويها أريسطوفانس أن الذكر جاء من الشمس والانثى من الأرض والجنس الثالث من القمر، على اعتبار أن القمر جرم له طبيعة مخنثة. وهذا الجنس كان مملوءًا بالأفكار السامية وأفراده حاربوا الآلهة وكانوا من المتمردين على الأرباب في السماء. وكعقاب على وقاحتهم وكفرهم قررت الآلهة شق كل واحد منهم إلى نصفين مما يضعفهم، فّإذا تمادوا في تعنتهم بعد ذلك يتم شقهم مرة ثانية، فيسير كل واحد منهم على رجل واحدة. وبعد عملية الشق الأولى ظهرت لديهم ما نسميه البطن والسرة بعد أن قام أبولون بمداواتهم وذلك من أجل الدلالة على ذلك التاريخ.
وبعد تلك العملية كان كل نصف يريد الاتصال بنصفه الآخر، فسارعوا إلى البحث ومعانقة بعضهم البعض على أمل العودة والاتحاد كما كانوا فماتوا جوعًا وضعفًا. ولما رأى الإله المشتري موتهم بعد صدمة الانفصال أشفق عليهم واخترع واخترع وسيلة تجنبهم الموت، فكان النسل والإنجاب والولادة.
ومنذ هذا التاريخ وجد الحب بين الجنسين، ووجد الشوق والعناق، وصار كل جنس يبحث عن نصفه الآخر. فكل واحد من البشر ناقص يبحث عن الكمال والاتحاد بالنصف الثاني الذي يكمله. وعندما يلتقي النصفان يرتبطان بالحب والاجتماع والرغبة والحاجة، ولا يريد أحدهما أن ينفصل عن الثاني، فغاية الحب امتلاك كل منا محبوبه فنعود لطبيعتنا القديمة.
الحب يرفض المشوه
يجادل أجاثون بأن الحب أسعد الأرباب وأفخرها وأجملها، والحب هو الأجمل لأنه مرتبط بالشباب، وأسرعها زوالًا حيث ينفر الحب من كل عتيق. فالمثل يقول “شبيه الشيء ينجذب إليه” وهو ينطبق على ارتباط الحب بالشباب والصبا، لا بل إن الحب صباه أبدي. والحب كما يصفه أجاثون “لين رقيق لطيف لا يسير على الأرض بل يمشي على رؤوس الرجال ويسكن ثنايا الأحشاء”.
والحب عنده لا يلامس أصحاب القلوب الجافة والجامدة والخشنة فإنه يهرب من هؤلاء، والحب يعادي كل ما هو مشوه لأنه يقضي حياته بين الزهور، والحب لا يسبب الأذى ولا يفعل شيئًا فيه قسوة، وكما أنه عادل غايته الاعتدال قادر على الترفع عن الملذات والشهوات، والحب موجد الفرح.
الحب يصنع الشعراء لأن كل إنسان مهما كانت حاله قبل الحب فإنه بعد الحب يصير شاعرًا. فالحب واضع كل الفنون، والآلهة تعلمت مهنتها من “حب الجميل”، لأنه لا يوجد حب ورغبة نحو الأشياء المشوهة.
الحب شيطان
أخيرًا يأتي دور محاورة سقراط، إلا أن مجادلته حول الحب تحمل في طياتها أبعادًا فلسفية ونفسية عميقة، فهو يستهل خطابه بالسؤال “هل الحب هو حب شيء أو حب لا شيء؟ وهل الحب يشتهي الشيء الذي هو موضعه؟ وهل من كان يملك الشخص الذي يشتهيه يبقى يحبه؟”.
ينطلق سقراط في محاورته لتاكيد الملاحظة التالية “لاحظوا أن الرغبة تشتهي ما تطلب ولا تملك، والرغبة لا تشتهي إلا ما تطلب”. ويضرب سقراط أمثلة: هل يريد من صار شهيرًا أن يصير شهيرًا مجددًا، وهل يشتهي القوي أن يكون قويًا، فهل يمكن أن تكون الرغبة في أشياء يمتلكها الإنسان ام في أشياء لا يمتلكها؟
فلو أن شخصًا غنيًا يقول “أريد أن أكون غنيًا”، ستقول له “إنك غني لا معنى لطلب ما هو لك وإنما يمكنك أن تطلب استمرار حالة الغنى التي تعيش فيها”. وينتج من هذا حسب سقراط أن الإنسان عندما يشتهي شيئًا يملكه فإنما يريد بذلك دوام الامتلاك. لذا فالحب هو السعي للحصول على ما ليس في وسعنا الحصول عليه، وما لا يمكن ضمان بقائه إلى المستقبل حتى لو حصلنا عليه في الحاضر.
الحب يشتهي ما هو غائب وبعيد عنه، أي الشيء الذي ليس له، ولا يخفى أن الشيء الذي يشتهي شيئًا آخر لا بد أن يكون هذا الشيء مغايرًا له. فالحب يحب ما يشتهي ولكن لا يمتلكه. ثم يصف سقراط الحب بأنه شيطان لأنه يقع في منزلة وسطى بين ما هو رباني وما هو إنساني، وهو صلة الوصل بين الإنسان والأرباب.
يصف سقراط الحب بأنه فقير على الدوام وبعيد عن الرقة والجمال، عكس ما يتخيله البشر، بل الحب قذر وممزق الثياب ويطير على مقربة من الأرض، ولا مأوى له ولا حذاء ينتعله، وينام بلا غطاء أمام الأبواب وفي الطرق، وهذه صفات أمه. وأما نصيبه من صفات أبيه أن الحب يفكر على الدوام في الحصول على الأشياء الجميلة الصالحة، ولا يخاف وهو شديد قوي في الصيد ويدبر الحيلة باستمرار وهو في غاية الحذر والإحتراس وهو حكيم وساحر.
وطبيعة الحب ليست فانية وليست خالدة فهو في اليوم الذي يفوز فيه يزهر ويزهو ثم يموت ثم يعود إلى الوجود. والحب ليس غنيًا وليس فقيرًا، وهو في برزخ بين العلم والجهل. والحب في معناه العام هو الرغبة الصادقة في امتلاك السعادة وامتلاك الخير وامتلاك الجميل، وامتلاك الأبدية وعدم الفناء، لذلك فالحب هو رغبة للتناسل في الشيء الجميل لأن الطبيعة لا يمكنها تلقيح المشوه ولكن تستطيع التلقيح في الجميل.
Leave A Comment