في العام 2020 يحتفل لبنان في اليوم العالمي للمرأة بينما تضع قوانينه وممارسات المجتمع الكثير من القيود على جسد المرأة وتنتزعه منها لتحوله ملكاً للذكور، وتسمح لهم وحدهم أن يحددوا كيفية التصرف به. لا سلطة للمرأة على جسدها إذاً بحكم النظام القائم وقوانين الأحوال الشخصية التي جعلتها أسيرة للرجل. لكن أملاً بتغيير المشهد بعثته انتفاضة 17 تشرين، حيث تمرّدت نساء على الأبوية والذكورية، وهتفن بجرأة ضدّها وتمردن على مختلف أشكال القمع وواجهنه. واللافت في الانتفاضة أن الخطاب الأكثر جرأة والأكثر راديكالية صدر عن نساء تمكنّ من التحرر من الكثير من قيود المجتمع، وانتزعن اجسادهن من أيدي الرجال، غصباً عن القانون وذكور العائلة. وقد يلوح أمل بأن تتحول ثورة تشرين إلى ثورة جنسية تطيح بالنظام الهرمي الذي يخضع أجساد النساء كأسلوب للسيطرة السياسية.
من المتوقع أن يحتفل لبنان غداً باليوم العالمي للنساء، الذي يحل هذا العام بعنوان “جيل المساواة: إعمال حقوق المرأة من أجل مستقبل متساوٍ”. بالتأكيد سيخرج المسؤولون اللبنانيون بمواضيع إنشائية يمدحون بها المرأة ويدعون لمنحها حقوقها في وقتٍ يمنعونها عنها. وقد “يصرعوننا” بالحديث عن المساواة التي يرفضون الاعتراف بها عبر سن القوانين التي تكرسها وتلغي التمييز الجائر ضد النساء. ليستمر التحدي الذي يضعه النظام أمام النساء، تحدٍّ تواجهه كل فتاة في حياتها اليومية في سعيها لانتزاع جسدها من بين أيدي الرجل. هو تحدٍّ ليس بجديد، خاضته العديد من النساء قبل 17 تشرين، ما مكنهن من خوض الانتفاضة بقوة واندفاع وتحد أكبر من غيرهنّ، ومن لعب دور قيادي في المواجهة مع السلطة.
النساء المتحرّرات الأجرأ في المواجهة
ولتقدم النساء اللواتي يعتبرن متحررات الصفوف الأمامية في التحركات، ورفع سقف الخطاب أسباب وضعتهن في هذا الموقع. “السبب الأساسي أن المرأة كي تتمكن من التحرر والتصالح مع حياتها الجنسية وجسدها تكون أصلاً في حالة حرب مع العائلة والمجتمع. أي تدرك أساس المعركة وزواياها”، وفق ما تقوله لـ”نداء الوطن” المديرة الإقليمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لبرنامج “النساء في الأخبار” ميرا عبدالله. وترى عبدالله أن هؤلاء النسوة خضن أساساً ثورة على المجتمع قبل أن تكون هناك ثورة سياسية في لبنان. ولا تحصرعبدالله الثورة بالتظاهرات بل تراها ممارسة يومية على صعيد العائلة والأشخاص في المجتمع الضيّق وصولاً لما شاهدناه على الأرض.
تحرّر المرأة يُسقط النظام
ويؤكد هذا التفسير خطورة انتزاع المرأة لحقوقها وحريتها على بنية النظام الذكوري والطائفي القائم، ما يفسر هوس رجال الدين والسياسة من فكرة تحرّر المرأة وانتزاعها حقوقها وحريتها بالتصرف بجسدها. وهذا النظام وإن ادعى العفة لكن قوانينه تكشف قذارته في التعامل مع النساء. فهو نفسه الذي يحرم على المرأة القيام بعلاقة جنسية مع من تحب برغبة منها، ويبيح اغتصاب طفلة عبر تشريع تزويجها وتشريع الاغتصاب الزوجي. وبالتالي تنتفي ذريعة الأخلاق التي يتحجج بها لقمع جسد المرأة، ويبقى مبرر واحد هو إخضاعها لسلطة الرجل والإبقاء على هرمية النظام الأبوي. وترى مسؤولة الحملات والتواصل في التجمع النسائي الديموقراطي، حياة مرشاد، في حديث إلى “نداء الوطن” أن أجساد النساء في هذا المجتمع تستخدم كأداة قمع سياسية. “أهم وأكبر أدوات القمع هو التلويح بعصا الشرف طوال الوقت ومحاصرة النساء في حريتهن وحياتهن وأجسادهن بما يسمى مفهوم الشرف ومفهوم العذرية”. وتشير مرشاد إلى هوس هذا النظام بأجساد النساء، “فهو إما يقوم بتغطيتها باعتبارها عورة أو بتعريتها لاستغلالها والاتجار بها”. انطلاقاً من مطالعتها هذه تعتبر الناشطة النسوية أن لا تحرر حقيقياً للنساء إلا من خلال قدرتهن على التحكم بأجسادهن وحياتهن الجنسية بشكل خاص وحياتهن االخاصة.
وفي حين يحدد النظام دور المرأة عبر قوانين الأحوال الشخصية وممارسات المجتمع، ترى عبدالله أن خروج المرأة عن الدور المحدد لها سيريح كل فرد في حياته الخاصة التي يختارها، “لأن تحديد الأدوار في المجتمع مؤذٍ لكل الهويات الجندرية الموجودة، لا المرأة فحسب بل مؤذ للرجل أيضاً. وعندما تأخذ النساء والعامة حقوقهن الجنسية تنكسر سلطة الرجل الغيري المتشبث، عندها ستبدأ كل المنظومة بالانكسار، لهذا السبب هناك استماتة للدفاع عن هذه المنظومة كما هي، تقابلها استماتة في هدمها كلها”. أما الأولوية اليوم فهي لقانون مدني للأحوال الشخصية، “فهو من أكثر الأمور الجريئة التي قد تطالب بها المرأة ومجرد تحققه يؤدي إلى تدمير المنظومة الطائفية الدينية الموجودة”.
وفي حين قد يمنّن كثر النساء اللواتي ينتزعن حريتهن بهذه الحرية، تلفت عبد الله إلى صعوبة المواجهة من دون نص قانوني، لأن بعض الحقوق قد تجرم المرأة في حال انتزعتها ومارستها من دون نص قانوني. وعلى الرغم من الواقع السيئ الذي تكسره أحياناً إرادة النساء، فقد فرضت انتفاضة تشرين أو ربما ظهّرت تغييراً ما، “موقع النساء خلال الثورة أثّر في كثير من الأماكن واستطاعت المرأة أن تتقدم وكانت قيادية وأثبتت أنها تستطيع أخذ فرصتها من دون أن تنتظر أحداً”. وتنبه عبدالله إلى خطورة أن تتوقف التحركات هنا إذ أن 17 تشرين هزّت المنظومة لكنها لم تكسرها والتوقف الآن يعني عودتها كما كانت.
لتحرّر المرأة أثر إيجابي على الإقتصاد أيضاً
وتشير عبدالله إلى أن “لا مثال أو دراسة تثبت إذا كان الاقتصاد سيتأثر سلباً أو ايجاباً في حال نالت المرأة الحرية، لكنها تلفت إلى أمثلة حصلت داخل شركات حققت المساواة بين النساء والرجال، مثل “بلومبرغ” حيث حققت المؤسسة مداخيل اضافية بعد تحقيقها المساواة، ويمكن للمؤسسة أن تكون نموذجاً مصغّراً عن المجتمع”.
الاستثمار السياسي في جسد المرأة
وفي مسألة تعاطي المرأة مع جسدها تشير المعالجة النفسية، هبة خليفة، إلى مزيج من الإحساس الدائم بالذنب والمازوخية وعقدة النقص التي ترافق المرأة نتيجة لاكتشافها في سن الطفولة الفرق بين جسدها وجسد الصبي وعدم إفهامها هذا الفرق.
وتلفت خليفة إلى أن المرأة لا تكون المبادِرة حتى في علاقتها الجنسية مع زوجها، في إشارة إلى القيود التي تضعها على نفسها نتيجة التربية. وتضيء خليفة على مسألة استخدام الجنس وجسد المرأة كأداة للاستقطاب من قبل أكبر الأحزاب في لبنان، “حيث يستخدم الجنس المباح شرعاً لكسب التأييد، ويستخدم مع من لا تسمح له ظروفه المادية بالزواج، فتمكنه من إقامة علاقات جنسية من دون شعور بالذنب خشية الوقوع في ما يعتبره خطيئة الزنى وإغضاب الله”.
وتصف المعالجة النفسية هذه الممارسة بـ”الإنحرافات الجنسية” وتنبه إلى تضرر المرأة منها ولو قبلت بها، نتيجة تعدد العلاقات الموقتة ما يجعلها تفقد احترامها لجسدها. ورداً على سؤال حول كيفية تنظيم العلاقات الجنسية بشكل يخفف الضرر اللاحق من السيطرة على جسد المرأة وإخضاعها واستغلالها، يلفت المعالج النفسي علي الأطرش إلى ضرورة عقد ورشة فكرية يشارك فيها الرجل للبحث في كيفية تحقيق ذلك. ويرى الأطرش أن ما ينقص الحركة النسوية في لبنان هو الجهد الفكري، “إذ ترافقت الحركة النسوية في الغرب مع وجود منظِّرات في الفكر النسوي”.
Leave A Comment