يقول هيغل في تفسير بحث الإنسان عن الحقيقة: (وسوف يظل البحث عن الحقيقة يوقظ حماسة الإنسان ونشاطه ما بقي فيه عرق ينبض وروح تشعر) فما بالك حين تبحث الضحية عن الحقيقة؟ لعل ذلك يختزل في الكثير من ثناياه فكرة العدالة الانتقالية ومجال اختصاصها ونطاق عملها….
تعرف العدالة الانتقالية بأنها مجموعة الأساليب والآليات التي يستخدمها مجتمع ما لتحقيق العدالة في فترة انتقالية في تاريخه، تنشأ هذه الفترة غالباً بعد اندلاع ثورة أو انتهاء حرب، يترتب عليها انتهاء حقبة من الحكم القمعي داخل البلاد، والمرور بمرحلة انتقالية نحو تحول ديمقراطي. أو من الممكن التعبير عنها بأنها عبارة عن فترة أو مرحلة ما بعد الأزمات، تنتقل بالمجتمعات من حالات الصراع إلى حالة التوافق والسلام وصولاً إلى نظام ديمقراطي يمنع تجدد الصراعات.فمفهوم العدالة الانتقالية يربط بين مفهومين هما العدالة والانتقال، أي تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التي تمر بها دولة من الدول، كما حصل في تشيلي (1990) وغواتيمالا (1994) وجنوب إفريقيا (1994) وبولندا (1997)وسيراليون (1999) وتيمور الشرقية (2001) والمغرب (2004)
ويمكن إدراك أهميتها في المجتمعات كالآتي:
خلال الفترة الانتقالية تواجه المجتمع إشكالية هامة جداً، وهي التعامل مع قضايا انتهاكات حقوق الإنسان سواء كانت حقوقاً جسدية أو اقتصادية أو حتى سياسية. ومجال العدالة الانتقالية – أو مواصلة العدالة الشاملة أثناء فترات الانتقال السياسي – يهتم بتنمية مجموعة واسعة من الاستراتيجيات المتنوعة لمواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي وتحليلها وتطبيقها عملياً بهدف خلق مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية. تتضمن العدالة الجنائية وعدالة إصلاح الضرر والعدالة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية. وإضافة إلى ذلك فإنها مبنية على اعتقاد مفاده أن سياسة قضائية مسؤولة يجب أن تتضمن تدابير تتوخى هدفاً مزدوجاً، وهو المحاسبة على جرائم الماضي والوقاية من الجرائم الجديدة مع الأخذ في الحسبان الصفة الجماعية لبعض أشكال الانتهاكات.
تركز العدالة الانتقالية على خمس آليات لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان الماضية:
و هي تتصل الواحدة بالأخرى عملياً ونظرياً وأبرز هذه العناصر الأساسية:
1-الملاحقات القضائية: لاسيّما تلك التي تطول المرتكبين الذين يُعتَبَرون أكثر من يتحمّل المسؤولية.
2-جبر الضرر: الذي تعترف الحكومات عبره بالأضرار المتكبَّدة وتتّخذ خطوات لمعالجته، وغالبا ما تتضمّن هذه المبادرات عناصر مادية (كالمدفوعات النقدية أو الخدمات الصحيّة على سبيل المثال) فضلاً عن نواحٍ رمزية (كالاعتذار العلني أو إحياء يوم الذكرى).
3-إصلاح المؤسسات ويشمل مؤسسات الدولة القمعية على غرار القوى المسلّحة، والشرطة والمحاكم، بغية أن تفكك بالوسائل المناسبة آلية الانتهاكات البنيوية، وتفادي تكرار الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والإفلات من العقاب.
4- لجان الحقيقة:تشمل البحث عن الحقيقة وتقصي الحقائق (سواء من خلال تحقيقات رسمية وطنية مثل لجان الحقيقة أو لجان التحقيق الدولية أو آليات الأمم المتحدة أو جهود المنظمات غير الحكومية.و وسائل أخرى للتحقيق في أنماط الانتهاكات المنتظمة والتبليغ عنها، وللتوصية بإجراء تعديلات وللمساعدة على فهم الأسباب الكامنة وراء الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.
5- إحياء الذكرى: فتخليد ذكرى الضحايا من خلال إنشاء متاحف، وإقامة نصب تذكارية وغيرها من المبادرات الرمزية مثل إعادة تسمية الأماكن العامة، باتت جزءاً مهماً من العدالة الانتقالية في معظم أنحاء العالم
ومع أنّ تدابير العدالة الانتقالية ترتكز على موجبات قانونية وأخلاقية متينة، إلاّ أنّ هامش الوفاء بهذه الموجبات كبير، وبذلك ما من معادلة تناسب السياقات كافة.
دور المجتمع المدني في التوعية على فكرةالعدالة الإنتقالية
المجتمع المدني هو (المجتمع السياسي) الذي يحكمه القانون تحت سلطة الدولة. بوصفه مجالاً للمجموعات والجمعيات المستقلة مثل جمعيات رجال الأعمال وجماعات الضغط والأندية والعائلات، أي هومجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، هذه التنظيمات التطوعية الحرة تنشأ لتحقيق مصالح أفرادها أو لتقديم خدمات للمواطنين، وتلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف.فلا وجود للمجتمع المدني من دون حماية الدولة له، ولا بناء لمجتمع مدني من دون بناء للدولة، فالدولة والمجتمع المدني واقعان متلازمان. وتتجسد (المواطنة) في المجتمع، بحصول الناس، بغض النظر عن الفوارق الطبيعية والمكتسبة، على الفرص نفسها من المساواة في التعامل امام القانون في ظل الحريات العامة، إذ لن تكون هناك قيمة حقيقية للدستور والقانون مالم يتم تفعيل الدور الرقابي من قبل المنظمات المدنية، وتتم من خلال مساعدة الحكومة في خدمة الناس وبناء خلفية مؤثرة في السياسة لصيانة الحريات الديمقراطية ودعمها وتطويرها دون أن تتعامل مع السياسة مباشرة. وهنا يتبين لنا ضرورة عمل منظمات المجتمع المدني التي تكمل أو ترفد الدولة بتزويدها مثلا بالتقارير الموثقة عن الانتهاكات، مما يسهل على الدولة عملية التعويض للضحايا أو محاسبة مرتكبي الانتهاكات. كما يستمر عملها أثناء فترة التعويض والمحاسبة كمراقب لعمل الدولة.ومن أهم الأدوار التي يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تلعبها في مثل هذه المراحل هو رفع الوعي عند المواطنين لضرورة الالتزام بالقانون ومخاطر الانزلاق بحالات الانتقام الفردية التي لن تنتهي إلا بوجود محاكمات شرعية ذات مصداقية.
أي أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية وهنا تكمن أهمية هذه المنظمات لتكمل عمل الدولة أولاً، ولبناء علاقة أقوى مبنية على أسس القانون والعدالة بين المواطن والدولة، وخاصة عندما تكون هذه الدولة تمر بمراحل معينة وخاصة المراحل الانتقالية ومرحلة ما بعد الأزمات.
وتعد المصالحة شكلاً من أشكال العدالة الانتقالية التي تكون ضرورية لإعادة تأسيس الوطن على أسس شرعية قانونية وتعددية وديمقراطية في الوقت ذاته. في أي دولة بحاجة إلى تأسيس جديد لنمط الشرعية قائم على نمط الشرعية الدستورية، وتجاوز إرث الماضي الثقيل عبر مجموعة من الإجراءات تؤسس للدخول في (مصالحات وطنية) عبر (العدالة الانتقالية) التي تتم من خلال إعادة البناء الاجتماعي.
إن وسائل العدالة الدولية هي تطور بشري وإنتاج حضاري مشترك، وليست إنتاجاً غربياً، لابد من تعزيزه بدلاً من تقويضه، لكنها لا يمكن أن تكون بديلة عن الآليات الوطنية للعدالة. إن المصالحة تدعّم الديمقراطية من خلال إقامة علاقات التعاون اللازمة لوضعها موضع التنفيذ بنجاح. كذلك، على المصالحة أن تحظى، من بين أمور أخرى، بدعم العدالة الاقتصادية والسياسية وبتشارك اجتماعي للسلطة.
Leave A Comment