كتب علي بنهرار في مرايانا:
تنتصبُ العلاقات الاجتماعیة عند الطوارق على بُنيانِ التقارب الأمومي، وھذا یعني أن الطفل یأخذ نسب أمه؛ فكما یقول الطوارق: “البطن یحملُ الطفل”. مثلا، إذا كانت الأم نبیلة والأب عبدا فإن الطفل یكون نبیلاً، وإذا كانت الأم أمة والأب نبیلا، فإن الابن یصبح عبداً.
بالتالي، فإن الطفل الطارقي یأخذ نسب أمه بصرف النظر عن أصل أبيه.
في الجزء الأوّل من هذا الملف، رأينا أنّه في مجتمع أميسي على غرار قبائل الطوارق، فإنّ الأم هي التي تهتم بالخياطة وحياكة الخيام وتركيبها وإنشائها، وأنه لا يتمّ تمييز الذكر عنها، ولا يعتبر، في المخيال الطارقي، متفوّقاً عليها. وينشأ الذكر في مجتمعات الطوارق مثله مثل الأنثى.
في هذا الجزء، نستكشف كيف أنّ المرأة، ورغم تغيّر السياقات والظروف المجتمعية، فهي تبقى ذات مكانة اعتبارية!
رغم كلّ شيء، فإنّ العمل اليومي للمرأة الطارقية هو أقل تعباً من نظيرتها العربية، لأنّ للطارقية خادمتها التي تساعدها في تنظيف الخيمة وحلب الشياه والنوق، وجلب الماء من الآبار ورعاية الأطفال عند المشي.
في الصباح مثلاً، تعلم ابنتها الخياطة والقراءة والكتابة التفيناغية كما تقوم بزيارة أقاربها؛ وفي المساء، في حضرة زوجها، تحمل آلة الإمزاد لتعزف نوطات موسيقية ترفّه بها عن نفسها وعن أسرتها.
محمد السويدي في كتابه: “بدو الطوارق”، يذهب إلى أن العلاقات الاجتماعیة عند الطوارق تنتصبُ على بُنيانِ التقارب الأمومي، وھذا یعني أن الطفل یأخذ نسب أمه؛ فكما یقول الطوارق: “البطن یحملُ الطفل”. مثلا، إذا كانت الأم نبیلة والأب عبدا فإن الطفل یكون نبیلاً، وإذا كانت الأم أمة والأب نبیلا، فإن الابن یصبح عبداً. بالتالي، فإن الطفل الطارقي يأخذ نسب أمه بصرف النظر عن أصل أبيه.
المرأة في كُل مكاناتِها
في تعاليم الزواج الطوارقي، ثمّة ما يعزز “رأفة” الرّجل بالمرأة، إذ عليه أن يعامل الزّوجة وفق قانون ليالي التراحم الثلاث، “ففي أول ليلة، عليه اعتبارها أمه، وفي الثانية أخته، والثالثة زوجته، فإن فسدت علاقته بها كزوجة، عاملها كأخت، وإن فسدت علاقة الأخوة، عاملها كأم، ولا تكاد علاقة تفسد بين أم وابنها. كما لا يمكن أن يستعلي الابن على أمه”؛ تقول الباحثة فاطمة المحسن.
تتمتّع المرأة، بدورها، بالحرية الكاملة في اختيار زوجها. يتم ذلك عادة من خلال جلسات “تاغيلت”، وهي جلسات تعارف تُشبهُ جلسات عشاق العرب ومجانينهم… وفق تعبير الباحثة في قضايا المرأة الطارقية آمال هاشمي.
الروائي الإسباني ابن مدينة سانتا كروز بجزر الكناري، ألبرتو فيكييروا، عبّر عن هذه الحرية في روايته المترجمة إلى العربية، “طوارق”، إذ يقول: “الطوارق هم الوحيدون بين كل الشعوب الإسلامية الذين مازالوا يتبعون بوفاء تعليمات محمد، معلنين المساواة بين الجنسين، ونساؤهم ليس فقط أنهن لا يحجبن وجوههن بحجاب –خلاف الرجال- إنما يتمتعن أيضا بحرية مطلقة حتى لحظة الزواج”.
رغم إيمان أغلبِ الطّوارق بالدين الإسلامي، ومعرفتهم بإباحَة الشريعة للتعدد، فإنه، كاحترام لمكانة المرأة، ليس بمقدور الزوج أن يجلب الضّرة على زوجته، ويحتِّم عليه العرف الاحتفاظ بزوجة واحدة.
حتّى إذ أرادَ أن يدخل في زيجة أخرى، فعَليه أن يطلّق الأولى. ورغم أن هذا الشرط تراجعت حدته في السّنين الأخيرة، إلا أنه يندر تماماً أن تجد التعدد لدى الطّوارق.
ضمن التقاليد، يحقّ للمرأة أن تطلبَ الطلاق متى تشاء وتغادر البيت دون وصاية، وحين تفعل… فليس بإمكان الرّجل أن يأخذ معه إلا ما تعطيه هي.
وفي وقت يكيل فيه المجتمع العربي اللوم للمرأة المطلّقة، فإنّ الطلاق أمر تفتخر به النساء في مجتمع الطوارق، فالمرأة المطلقة تسمى “الحرة”.
قد يُحسم نقاش الاختلاف بمعرفة أنّ المرأة الطارقية لا يفرض عليها الحجابُ. بل على العكس، إذ من المعروف أنها تحتفي بجمالها وزينتها دُون قيدٍ أو شرط.
المدهشُ، ربما، أنّ معظم الطوارق لا يشكّل لهم غشاء بكارة المرأة أيّة أهمية تذكر قبل الزّواج، كما يبيّن الباحث بول فرمال، حين تحدّث عن عادات الزواج لدى الطوارق، وھذا أيضاً ما أكّده شارل دو فوك.
يثير الأمر، عملياً، علامةَ استفهام: كيف لم يتأثر مجتمع الطّوارق بثقافة الشّرق التي “قدّست” ذلكَ الغِشاء؟ تلك “القداسة” التي تعمّمت على الكَثير من البُلدان “العربية” المُجاورة للطّوارق بما فيها بُلدان شمَال أفرِيقيا، والتي قد تُقتَل بموجِبها المرأة، تحت إسم: “جريمة الشّرف”.
الطارقية… الزوجة والأمّ
إجمالا، تعتبرُ المرأة هي الأمينة على ثقَافة الطّوارق التقليدية، ويظهر أن أثر “الطارقية” في النظام الاجتماعي مهم للغاية، لدرجة أن “الطارقي” يرث الطبقة التي تكون عليها أمه، بغضّ الطّرف عن الطبقة الـتي ينتمي إليها الأب؛ وفق ما تبينهُ آمال هاشمي، الباحثة في ثقافة الطّوارق.
مثلاً، الرجل حين يتزوج سيدة أعلى طبقة مـن طبقته الاجتماعية، فإنه عملياً ينال مكانة أعلى، حتى ولو ظلت مكانته من النّاحية النّظرية هي مكانة قبيلته.
من الخصوصيات الهامة، كذلك، في طقوس الزواج الخاصّة بقبائل الرجال الزرق، فإن الزوج غير مخوّل للدخول على زوجته مادام لم يسلّم المهر كاملاً لأسرة العروس، فضلاً عن كون “أم العروس تشترط “تاغتست” أو هديتها الخاصّة، وعادة ما تكون ثورا أو جملا. طريقـة تقديم “تاغتسـت”، وهي جهاز العروس، تستدعي أن تجتمع النسوة فى مخيم لتهنئة أم العروس بخطبة ابنتها، ويتحلّقن حول التندي، وهـو جلد مربوط على هاون يشبه الدربوكة عند أهل شمال أفريقيا”، حسبَ ما أوردته الهاشمي.
تحتّم العادات أن البنت التي تتزوج لأول مرة، ينبغي أن تقضي سنة في رعاية أمّها حتى تنقل لها أساسيات القيم العرفية، من حيثُ أشكال تكوين الأسرة ومعاملة الزوج، ويبقى الزوج بجوار أصهاره والمرأة مع أسرتها إلى أن تلد مولودها الأول؛ حينها يكون مخيراً بين البقاء أو الرحيل إلى أهله.
الزواج، عند الطّوارق، يقـعُ عادة داخل العشيرة التي تنتمي إليها الأم. أما فيما يتعلق بصلة القرابة، فالطفل الذي يولد عند الطّوارق، يرث عن طريق الأم، وأطفال الطّوارق يعيشون في حضن العشيرة التي اختار الأبوان الانتماء إليها بصِفة دائمة.
كذلك، فإن المرأة الطارقية التي يتوفى زوجها وتصبح أرملة ولها أطفال، تعيش مع أهلها. كذلك، فأطفالها، ماداموا عزابا، يعيشون تحت وصاية خالهم وهو أولى برعايتهم من أحد أعمامهم؛ وعندما يتزوج أحدهم، تعيش معه أمه وإخوانه.
يتضحُ أنّ المرأة الطارقية حافظت على مكانة اعتبارية صَعُبَ اجتثاثُها، لأنها ضاربةٌ في جذور أعراف قبائل الرجال الزرق منذ عهد الملكة تينهينان.
لكن…
لحسن حظّ نساء الرجال الزرق، أن الطّوارق ينشؤون على احترام الأنثى والاعتراف الضمني بأهميتها ومكانتها… وفي وقت هناك نضالات أممية لإنصاف المرأة، هناك شعوب بدوية، ربما خارج التاريخ، بيد أنها أكثر حداثة فيما يتعلّق بالمساواة بين الجنسين.
وهذه الشعوب… ليست إلا الطّوارق!
Leave A Comment