ناهد بدوية (م 1958) سياسية سورية. شاركت في الحركة السياسية اليسارية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، واعتُقلت على خلفية انتمائها لحزب العمل الشيوعي بين عام 1987 و 1991 . عملت كصحفية منذ عام 2000 مع بداية ربيع دمشق في سياق نشاطها في الحركة الديمقراطية. صدر كتابها الخروج من العزلة عام 2009 والذي تناولت فيه الموجة النسوية الثالثة. شاركت في الثورة السورية، واعتقِلت في بدايتها، وخرجت من سوريا إلى فرنسا عام 2013. انضمت كسياسية مستقلة إلى اللجنة الاستشارية النسائية في الهيئة العليا للمفاوضات، وكانت حتى وقت قصير عضوة في الحركة السياسية النسوية السورية، وهي عضوة في جمعية رفيفر الفرنسية- السورية والتي تهتم باللاجئين واللاجئات السوريين والسوريات.
أين كنتِ يا ناهد في 2011، وإلى أين ساقتك دروب الثورة والحرب؟
كنتُ حينها في دمشق، وأعمل كمهندسة في القطاع الاقتصادي الخاص، وأرى بعيني تزايد الفساد، والاحتقان غير المسبوق الناتج عن التهميش الاقتصادي لمختلف فئات المجتمع جراء احتكار الثروة بأياد قليلة على نحو غير مسبوق أيضاً.
بدأ الغليان منذ ثورة تونس، وازداد عندما اندلعت الثورة في مصر. وقد كنت متأكدة من أن الثورة سوف تندلع في سوريا كذلك دون قرار من أحد. لذلك أنشأتُ صفحة فيس بوك لمتابعة التطورات في منطقتنا. شاركت في الاعتصامات أمام السفارات المصرية والليبية ضد القمع وقتل المتظاهرين هناك. وحين أضرب معتقلو ربيع دمشق عن الطعام مطالبين بالإفراج عنهم، وقعتُ بيان المثقفين التضامني لدعم عائلات المعتقلين في اعتصامهم في ساحة الداخلية. ثم نزلنا معهم في 16 آذار، واعتقلت حينها لمدة أسبوعين. وعندما خرجت من المعتقل كانت الثورة قد اندلعت، فشاركت فيها عبر مجموعة «نساء لدعم الانتفاضة السورية» التي أسسناها لدعم أهالي الشباب الثائر.
انتسبت في صباكِ إلى حزب العمل الشيوعي. هلا أخبرتنا شيئاً عن تلك التجربة؟ على سبيل المثال: كيف عوملت المرأة في حزبك الشيوعي، وهل كان صوتها يلقى صدى في أهداف الحزب وبرامجه وأعماله؟ وكيف كنتِ تتعاملين مع هذا المعطى؟
كانت الحركة السياسية نشيطة جداً أثناء فترة دراستي في كلية الهندسة في جامعة دمشق. بدأتُ دراستي في 1977 وأنهيتها في 1982. وفي تلك الفترة بدأت نشاطات النقابات المهنية والكتّاب والمثقفين ضد الاستبداد. وكذلك تسارعت فوضى الاغتيالات والأعمال العسكرية من قبل الطليعة المقاتلة المنشقة عن الإخوان المسلمين. انخرطتُ في السياسة بشكل كبير من خلال النقاشات والحوارات الطلابية. وانتسبتُ بعدها إلى حزب العمل الشيوعي، لأني كنت أطمح لأن أشارك في الحياة السياسية.
لم أكن قد فكرت حينها بالمسألة النسوية بعد. التعامل مع المرأة ضمن الحزب كان متقدماً بالعموم، ولعله أحد الأسباب التي جعلتني أنخرط أكثر معه. كانوا يحترمون عقل المرأة أكثر من الأوساط الأخرى التي كنت أعرفها. ولكن هل كان الحزب نسوياً؟ في الحقيقة، رغم المشاركة النسائية العالية نسبياً، إلا أنه ولا واحدة منّا وصلت إلى مراكز قيادية. لم يحصل هذا إلا نادراً، وفقط بعد حملة اعتقالات واستنزاف لمعظم الرجال في الحزب.
بعد وفاة حافظ الأسد ظهرت في سوريا حركة ديمقراطية أطلقت على نفسها اسم ربيع دمشق. وقد كنتِ من بين الذين شاركوا بالفعاليات. ماذا كان دوركِ؟ وكيف كانت مشاركة المرأة في ربيع دمشق؟ وهل ثمة من طرح قضية المرأة بشكل علني وواضح؟
أطلق اسم ربيع دمشق على الفترة الانتقالية التي نشطت فيها المعارضة السياسية في سوريا بعد وفاة حافظ الأسد. لأنه يمكن للمنصب أن ينتقل بالوراثة، ولكن القوة لا تنتقل بالوراثة. وبشار الأسد استلم منصباً، ولم يكن قد أصبح سلطة بعد. وحالما عبّر في بضعة جمل بسيطة أن حكمه سوف يعترف بالرأي الآخر، حاول المثقفون استثمار الهامش وانطلق حراكاً فيما بينهم، فصدر بيان الـ 99 للمطالبة بالديمقراطية، وازدهرت الفعاليات في قلب دمشق وجميع أنحاء سوريا. وتشكلت المنتديات ولجان المجتمع المدني.
كما تشكلت أول حركة نسوية ضمن لجان المجتمع المدني، وهي «لجنة دعم قضايا المرأة» التي أسستها مية الرحبي مع مجموعة من السيدات. كما تأسست مجموعات نسائية أخرى تشتغل على السيداو، وحق الجنسية، والحضانة، والحضور السياسي للنساء. المرأة صاحبة حق وصاحبة مطالب، لذلك نرى أن الحركة النسوية تزدهر فوراً حين تجد هامشاً حراً.
بدأتُ بالمشاركة حين تشكلت المنتديات، وحضرت فعالياتها جميعاً. ولكني كنت في منتدى جمال الأتاسي ضمن الهيئة العامة، وانتخبتُ ضمن الهيئة الإدارية. نظمنا عدة ندوات وحاولنا أن تكون جريئة، لأننا لم نرغب بخفض السقف بعد إغلاق منتدى رياض سيف. بل على العكس حاولنا رفع السقف كنوع من الإعلان عن أن هذا المنتدى سوف يحافظ على جرأته الديمقراطية ونضاله من أجل الحرية.
في ذلك الوقت كان الإعلام يشيع بأن المؤتمر الخامس لحزب البعث سوف يطرح برنامجاً إصلاحياً. فنظمنا ندوة دعونا إليها إثني عشر حزباً، من بينهم حزب البعث، وطلبنا منهم أن يخبرونا عن برامجهم الديمقراطية لسوريا. كنا نحاول فتح نقاش وطني واسع حول البرنامج الديمقراطي وتشكل الحكم في سوريا. وقد شارك الإخوان المسلمون في الندوة بورقة أرسِلت إلينا، مما سبب اعتقالنا كهيئة إدارية في أيار 2005. لم يكن مسموحاً على الإطلاق أن يعبّر الإخوان المسلمون، رغم أن ورقتهم كانت ديمقراطية كجميع الورقات الأخرى. كنا جميعاً ضد الاستبداد، ونطالب بحكم ديمقراطي، ولم يكن بيننا أحد يطالب بدولة إسلامية أو اشتراكية أو قومية. جميعنا طالبنا بالتشارك في سوريا الديمقراطية. كانت تلك نهاية ربيع دمشق، حيث سرعان ما أعلن الرئيس أنه لا يوجد إصلاح، لأن الأمن هو الأساس. وقد ترافق ذلك مع مقتل رفيق الحريري، مما سارع بالتضييق النهائي وإغلاق جميع المنتديات.
صدر لك كتاب نِسوي بعنوان الخروج من العزلة، وصفت فيه اغتراب كل من المرأة والرجل عن بعضهما. ما هي ملامح تلك العزلة برأيك؟ وما أسبابها؟ وهل من سبيل للخروج منها يوماً، لا سيما أن التطورات في العالم لا تبشر بكثير من الخير؟
أقصد العزلة بين المرأة والرجل كشريكين في الحياة، لأن مفرد الإنسان ليس واحداً بل اثنان: رجل وامرأة! ولكي تتحقق شروط الشراكة ينبغي أن نكون ندّين، وألا يكون هناك سيطرة واستبداد لطرف على الآخر. الحضارة الذكورية تعتبر الرجل سيد المرأة، وبالتالي المرأة من الدرجة الثانية أو الجنس الآخر كما عبرت سيمون دوبوفوار. أنا أعتبر المرأة غير متحققة، وليست هي فقط، كذلك الرجل غير متحقق، لأنه خاضع لمقاييس تفرض عليه سلوكاً نمطياً مرسوماً له سلفاً. الشراكة الحقيقية تكون بكسر هذا الهرم، وعندها سوف يخرجان من العزلة التي سببتها مركزية الذكر في الحضارة الذكورية.
هل العزلة هنا هي الاغتراب عن الآخر أم أنها اغتراب عن النفس كذلك؟
أقصد اغتراب الشريك عن الشريك الآخر. يسكن الشريكان في بيت واحد، ولكن كل واحد منهما معزول عن الآخر ضمن الصور النمطية المرتبطة بالذكر والأنثى. حين نقضي على الحضارة الذكورية سوف نصبح ذوات متحققة، وبالتالي سوف نستطيع التشارك ورؤية الآخر كنِد، وهو سوف يرانا كنِد أيضاً.
تحتفين في كتابكِ بالنظرية النقدية النِسوية، وتعتبرينها الترياق الذي تحتاجه المرأة النِسوية كي تنهض بقضيتها. ولكن أليست النِسوية في جوهرها نظرية نقدية ولا داع لفصل المصطلحين عن بعضهما؟ وكيف يمكننا تحفيز النِسويات السوريات فعلاً على سن قدراتهن النقدية بغية أن يزدهر الإنتاج النِسوي الذي يعاني من ركود؟ هل عندك اقتراحات معينة؟
لا أوافق أني أعتبر النظرية النقدية النسوية الترياق الذي تحتاجه المرأة كي تنهض بقضيتها، بل هي ضرورية للبشرية بأسرها، وليس للمرأة فقط. أما بالنسبة لسؤالكِ، فاسمحي لي أن أفرق بين الأشكال المتعددة للنسوية. تتجلى النسوية في الحركة النسوية، وفي الفكر النسوي. الفلسفة النقدية النسوية هي جهد فكري، لذلك حين تقولين النسوية وتضعينها مقابل النظرية النقدية النسوية، فكأنك تضعين الكل مقابل جزء منه.
الذي جعلني أهتم بالنظرية النقدية هو أنها لصالح الديمقراطية والتعددية. هي جهد فكري، أما الحركة النسوية فهي موجودة منذ نهايات القرن التاسع عشر. طبعاً حصل انفجار نسوي في منتصف القرن العشرين، وهو ما يسمى بالموجة النسوية الثانية التي مكنت النساء في البلدان الغربية من الحصول على كل الحقوق التي يتمتعن بها الآن. ولكن الحركة النسوية تراجعت في أوائل الثمانينات، ووصلت تقريباً إلى الصفر. حتى النساء صرن يتبرأن من كلمة «فيمينست». ولكن في الوقت نفسه انطلقت حركة نقدية نظرية فكرية كبيرة جداً في الجامعات والعلم، من دون أن تكون حركية. انطلقت أبحاث لم يستطع علماء الاجتماع تجاهلها من أجل التاريخ والعلم، وليس فقط من أجل المرأة. كانت تضيف أفكار جديدة ومفيدة للبشرية ككل.
ولكن أليست هذه ما يسمونها بالموجة النسوية الثالثة؟
بدأت النظرية النسوية النقدية نشاطاتها في الثمانينات تقريباً. طبعاً كل موجة لديها ناس قبلها وناس بعدها، وبرأيي أننا نجد بعض بذورها في كتابات سيمون دوبوفوار. الذي حصل هو أنه بعدما توسعت كل تلك الدراسات، قامت بعض النسويات بإصدار بيان يعلن عن بداية الموجة النسوية الثالثة كحركة، وكان أكبر تجلياتها هو مؤتمر بكين. والسبب هو أن ثمة تيارات بدأت تتكلم عن ما-بعد النسوية، وأن النسوية مضى وقتها، فجاءت هذه الحركة والمؤتمر كي تؤكد على ضرورة البناء على كل الإنجازات التي حققتها الموجة النسوية الثانية. يوجد فرق بين الحركة النسوية والفكر النسوي. فعلى سبيل المثال كانت الموجة النسوية الرابعة حركية بالدرجة الأولى. أما النظرية النقدية، فلم تكن تطالب، بل كانت تفكك الفكر الذكوري في المجالات الفكرية المختلفة كالعلم والأخلاق.
ولكن هي لا تفكك من غير هدف. أرى كثيراً من الغرابة بطرح أن النظرية والفكر منفصلان عن الحركة.
الفكر يأتي قبل الحركة. في البداية كتب ماركس، وبعدها قامت الثورات الاشتراكية. والثورة الفرنسية جاءت بعد مائة عام من عصر الأنوار. الفكر شيء، والحركة على الأرض شيء آخر. لا أريد أن أقدم الفكر على الحركة أو العكس، ولكنهما شيئان مختلفان. في الجامعات يعددون النظريات النقدية، ويذكرون من بينها النظرية النقدية النسوية.
بالنسبة لي صعب جداً أن أشارك بالحراك دون أن أشارك بالفكر، أو أن أشارك بالفكر دون أن أشارك بالحراك. أليس الأمر أشبه بالانفصام؟
هذا نقاش كبير، على فكرة، وخاضه قبلنا الكثيرون. وهناك عشرات الكتب حول المثقفين ودور المثقف في السياسة، ولقد كتب إدوارد سعيد وغيره عن الموضوع. وكيساريين كنا نتكلم دائماً عن المثقف العضوي الذي ينتج أفكاراً وفي الوقت نفسه ينتسب للحزب. بكل تأكيد أن الشخص المقتنع بأفكار معينة ينبغي أن يشارك بالحركة، ولذلك أشارك على الأرض وأعتبر نفسي سياسية. أنت تطرحين موضوعاً ناقشناه كثيراً في الثمانينات، وكم مرة قلنا إننا لسنا مع المثقف الذي يجلس في البرج العاجي، بل ينبغي أن ينخرط بالأحزاب. لكننا غيرنا رأينا بعد ذلك، إلى أن صرنا «نص نص» في آخر المطاف. على كل الأحوال، علاقة المفكر بالحركة هو موضوع أعم من النسوية.
يفصل كثير من الناس الكفاح النسوي عن الكفاح الموجه لإسقاط رأس النظام السياسي. ولكنكِ تعتبرين أن هرم السلطة الجنساني هو أقوى هرم سلطة عرفه التاريخ وأنه صبغ جميع السلطات الأخرى بطابعه. هل هذا يعني أن الهرم الجنساني هو الأساس الذي بنيت عليه السلطات الأخرى؟ وكيف ربطتِ بين القمع الذي يصيب الأنوثة وذلك الذي يتجسد برأس سلطة سياسية مؤقتة؟ وهل سيؤدي تفكيك القمع الواقع على الأنوثة إلى كسر أرجل الكرسي الذي يجلس عليه السلطان؟ وكيف؟
الإنسان لا يتجزأ، والحرية لا تتجزأ، والاستبداد لا يتجزأ. حين قلت في كتابي إن هرم السلطة الجنساني هو أقوى هرم سلطة عرفه التاريخ، كنت أقصد أنه قديم جداً. نشأ الهرم الجنساني منذ أيام الزراعة حين شرع الرجل بتسوير الأرض والدفاع عنها بعضلاته. وقد استمر على مدى العصور القديمة، فأنتج صوراً وممارسات وحضارات مبنية على هذا الهرم. أنا لا أفصل القمع السياسي عن الحضارة الذكورية.
لاحظي أن إعلان حقوق الإنسان بعد الثورة الفرنسية لم يشمل حقوق المرأة، لأنهم كانوا لا يعترفون بها كبشر أصلاً. فجاءت أوليمب دو غوج1 لتطالب بحقوق المرأة، فتمّ قتلها. عملياً عاد الاستبداد بعد الثورة، ولم تتحقق مبادئ حقوق الإنسان إلا بعدما نالت المرأة حقوقها. ولم تحصل المرأة البريطانية على حقوقها السياسية إلا في أوائل القرن العشرين، وانتظرت المرأة الفرنسية حتى 1945. لم تصبح هذه المجتمعات أكثر ديمقراطية إلا بعد انتزاع المرأة حقوقها. ولن تصبح ديمقراطية كما نحلم بها، إلا بعد أن تتخلص من جميع آثار الحضارة الذكورية.
1. Olympes de Gouges واسمها الحقيقي Marie Gouze أديبة، وُلدت في منتصف القرن الثامن عشر، عاشت حياةً متحررة نسبة لعصرها ورفضت الزواج بعد وفاة زوجها لأن نشر الكتابات لامرأة متزوجة كان يقتضي موافقة الزوج. لها كتابات مسرحية ومقالات جريئة تتناول فيها قضايا العبودية مما عرضها لتهديدات بالقتل من قبل ملاكيّ العبيد، في زمن كان نصف عائدات التجارة الخارجية الفرنسية من المستعمرات. تابعت كتاباتها السياسية الجريئة بعد الثورة منتقدة المشهد السياسي العام. كتبت عام 1791 إعلان حقوق المرأة والمواطنة، وضمنت فيه رؤيتها لحقوق السود والمولدين (الخلاسيين) والأطفال غير الشرعيين. بعد مواقفها النقدية شديدة الجرأة تم توقيفها وإعدامها بالمقصلة عام 1793.
ولكن كيف ينسحب ذلك على وضعنا السوري؟ هل وجود بشار الأسد له علاقة بالذكورية؟
مجرد أن تنقلب الجمهورية إلى حكم وراثي هو في غاية الذكورية. الوراثة صنيعة الحضارة الذكورية، لأن الذكر الذي سيطر على كل هذه السلطة والأملاك يريد أن يورثها للذكر. حتى في فرنسا كانت العائلة تورث أملاكها للذكر الأول. ولقد تجلت الحضارة الذكورية في مجتمعاتنا في جانبين: الأول هو الاستبداد المطلق، والثاني هو الخضوع للذكر أو البطريرك الكبير. ولكن الخضوع جاء بعد تنكيل، حيث كان الشعب السوري متمرداً، وما زلتُ أذكر المظاهرات في مرحلة الابتدائية وكيف كان طلاب الثانوية يخرجوننا من المدارس كي نتظاهر معهم. جاء الخضوع بعد تنكيل إذن، ولكن هذا لا ينفي أن لدينا ثقافة خضوع منشؤها الحضارة الذكورية المرتكزة على سلطة البطريرك الكبير. وقد استندت على هذه الحضارة فكرة الأب القائد حافظ الأسد الذي ينبغي أن يخضع كل الشعب له، كما تخضع العائلة للبطريرك الكبير. تنحدر هذه الأبوة من ثقافتنا الذكورية. يقول حافظ الأسد: أنا أبوكم!
لم تتراجع الحضارة الذكورية في أوروبا إلا بعدما صارت السلطة في يد الدولة. نحن النساء نراهن على الأنظمة الحديثة والدولة، كي تنتهي فكرة أن الابن مِلك الأب، فلا يعود مخولاً أن يعلق طفله على الشجرة ليجلده. الطفل والمرأة والرجل محميون من قبل الدولة. الدولة من صالحنا، والمهمشون يسعون دائماً إلى توطيد الديمقراطية ودولة القانون والمساواة أمام القوانين. لذلك أراهن بقوة على نضال المرأة من أجل الديمقراطية.
وردت في كتابك فقرة تكاد تلامس القلب، قلتِ فيها أنكِ لم تكتشفي إلا متأخرة أن جميع انتصاراتك وهزائمك في الحياة مرتبطة بكونكِ امرأة، وأن هذا انعكس على جميع مسارات حياتكِ العائلية والمهنية والسياسية والاجتماعية. برأيي النِسوية تكمن باكتشاف تلك الصلة والتمرد عليها. ربما هو سؤال شخصي بعض الشيء، ولكن قد يكون مفيداً أن نعرف كيف أثرت أنوثتكِ على حياتك؟ وكيف تعاملتِ مع هذا المعطى؟
سبق أن قلت إني لم أكن أسعى إلى تحرر المرأة في بادئ الأمر، ولكني أدركت لاحقاً أني شاركتُ في السياسة لأني أطمح أن يعترف أحدٌ بأفكاري وعقلي وشخصيتي، ولا ينظر فقط إلى شكلي. أذكر أني كنتُ في مراهقتي موضوعاً للخطبة فقط، أو للتحرش. كنت أشعر أنه لا أحد يهتم بي كشخص، ولا بما أفكر فيه. أدركتُ لاحقاً أني اشتغلتُ في السياسة كي أتعامل مع أشخاص قادرين على رؤية عقلي وفكري ومساهمتي في المجتمع. لا شك أن أثّر ذلك على خياري بالتوجه نحو السياسة المعارضة، حيث لا يمكن الفصل بين التمرد على الأب والتمرد على الديكتاتور.
لماذا لا يمكن فصل التمرد على الأب عن التمرد على الديكتاتور؟
المرأة التي تعي أنها مضطهدة في البيت لأنها امرأة، سوف ترفض جميع أنواع الاستبداد. إن تمردت على الأب فسوف تتمرد على الديكتاتور، لأنهما وجهان لعملة واحدة. والخضوع للسلطة الأبوية قد يكون أساس الخضوع للاستبداد. كنا نلاحظ أن النساء المنخرطات في السياسة جذريات اجتماعياً أكثر من الرجال. وقد كنا نتفاجأ أحياناً بالرجال الذين يتكلمون بالسياسة وينادون بالفكر الجديد والمساواة مع المرأة. وفعلاً كانت التزاوجات بيننا مختلطة، وقلما تم اشتراط المظهر الجميل أو العائلة الكبيرة أو الطائفة كما هو الحال في الأوساط التقليدية. أنا أتكلم عن أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. كنتِ تجدين أناساً يحاولون تطبيق أفكارهم في حياتهم الشخصية. ولكن النساء كنّ قادرات على تطبيق أفكارهن في حياتهن الشخصية أكثر من الرجال. هكذا لاحظنا! لا تستطيع المرأة أن تخرج من إطارها المرسوم لها وتشتغل في السياسة إن لم تكن أصلاً قد تمردت في بيتها، أما الرجل فيشتغل بالسياسة دون أن يضطر للمعركة الاجتماعية في بيته.
انتسبتِ للحركة السياسية النسوية السورية. هلا حكيت لنا عن ظروف نشوء هذه الحركة؟ ولماذا اضطرت النساء إلى تأسيس حركة سياسية مستقلة رغم أن المطالب العامة واحدة لجميع السوريين؟ وما هو برأيك وزن الحركة السياسية النسوية السورية في الساحة السياسية العامة، وإلى أي درجة تمثل هذه الحركة النساء السوريات فعلاً؟
سوف أتكلم عن نفسي أولاً. في الحقيقة، لم أكن مقتنعة بحركة سياسية للنساء فقط. أذكر أن إحدى صديقاتي، وجد السباعي، سألتني مرة عن رأيي في تشكيل حزب نسائي، فأجبتها أن الحزب ينبغي أن يملك برنامجاً لجميع أفراد المجتمع، وبالتالي يحتاج أن ينتمي أعضاؤه إلى جميع أفراد المجتمع، رجالاً ونساء. ولاحقاً جاءتني مريم جلبي بالفكرة ذاتها، فخطر على بالي أن أعرفهما على بعضهما. لم أكن ضد الفكرة، ولكني لم أقتنع بها تماماً.
غير أن المرأة السياسية تعاني من الاستبعاد والتهميش من قبل الأوساط السياسية، وتحتاج إلى قوة لتعزيز وجودها السياسي. لذلك اجتمعت مجموعة من السوريات اللواتي يطمحن إلى تكريس حضور المرأة في الوسط السياسي السوري، وأسسنَ الحركة السياسية النسوية السورية في 2017. واجتمعن على نقطتين: الأولى هي الانحياز للثورة والديمقراطية، والثانية هي الانحياز للنسوية. وقد كنتُ في ذلك الوقت أرغب بالمشاركة في الحياة السياسية مباشرة، وليس فقط المشاركة في الفعاليات المختلفة أو الكتابة. لذلك انضممتُ إلى الحركة، لأنها سياسية وتجتمع على الديمقراطية التي هي مشروعي الأساسي، وعلى النسوية التي هي شرط من شروط الديمقراطية.
غير أني انسحبتُ منذ فترة قصيرة قبل انعقاد المؤتمر الأخير، لأنه لم يكن لدي وقت للمشاركة فيه بسبب عملي الهندسي للأسف. وإذا لم أشارك، فلن أعتبر نفسي عضوة، فأنا عادة فعالة جداً في المؤتمرات. ولكن الحركة السياسية النسوية تبقى حركتي وأدافع عنها، وقد قلت لزميلاتي إني تحت تصرفهنّ في أي لحظة وجاهزة دائماً لمد يد العون.
ومن ناحية أخرى، أعتقد أننا في هذه المرحلة بتنا بحاجة إلى أن نعيد تشكيلنا كحركات سياسية جديدة. أنا مقتنعة أن التشكيلات القديمة التي ظهرت في السنوات العشر السابقة سوف تنتهي جميعها.
لماذا تعتقدين أن تلك التشكيلات سوف تنتهي، وما هو البديل برأيك؟
لدي قناعة أننا نحتاج إلى تشكيل حركة سياسية سورية عريضة بناءً على الظروف الجديدة. لقد اختلفت الأمور بعد مضي عشر سنوات على انطلاقة الثورة. لا بد أنكِ لاحظت ظهور الملفات التي تراجع المرحلة السابقة، ولقد قدمتُ دراسة بنفسي. مرحلة ما بين 2011 و2021 لها سماتها، وبرأيي أن كل شيء تشكل فيها سوف ينتهي أو يستمر بعد تغيير برنامجه وأهدافه. ورقتنا الأساسية في الحركة السياسية النسوية السورية هي الثورة، لكن الظروف اختلفت الآن. لا شك أن الثورة ما زالت موجودة، ولكننا دخلنا مرحلة جديدة تتطلب أدوات جديدة وخطاب جديد.
نحتاج إلى أحزاب سياسية ببرامج مكتوبة في 2021، وليس برامج الثمانينات، ولا برامج بداية الثورة، لأن تركيبة سوريا اختلفت. سوريا التي نعرفها لم تعد موجودة، حتى النظام لم يعد سوى قوة واحدة من قوى الأمر الواقع. صارت سوريا عبارة عن مناطق نفوذ مختلفة: شرق الفرات، وغرب الفرات، والمنطقة الجنوبية، والساحل السوري ودمشق، ووقعت تحت الاحتلال الروسي والإيراني.
لا بد أنكِ لاحظتِ الإحباط الذي ترافق مع الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والسبب هو أنها أنهت مرحلة. هذا كان واضحاً حتى قبل الانتخابات، ورغم ذلك علت نداءات بين السوريين والسوريات لتشكيل حركة سياسية واسعة من أجل إعادة تشكيل الشعب السوري كشعب موحد، إن كان في الشتات أو في الداخل. وظهرت محاولات لتجميع القوى وطُرِحت أوراق، ولكنها لم تثمر حتى الآن. أتوقع أنها ستثمر قريباً. المرحلة القادمة سوف تكون فيها تجمعات كبيرة تعبّر عن المسألة السورية. لم تعد لدينا الحرب السورية، أو الثورة السورية، وإنما المسألة السورية. لدينا شعب نصفه مهجر، ونصفه الثاني موزع على أربع مناطق نفوذ مختلفة واحتلالين. توجد دعوات سورية للتجمع ووضع خطط تناسب المرحلة الجديدة، وهذا ما أراهن عليه.
تعرّفين على نفسكِ كسياسية بالدرجة الأولى. إذا حاولنا تعريف السياسة بالمعنى الواسع للكلمة، أي كمشاركة في صنع المجتمع وتغييره، نرى أن هناك إحجام كبير عند النساء عن السياسة. كثيرات يعبّرن أنهن لا يحبّنّ السياسة، لتكون تلك حجتهنّ للبقاء ضمن المجال الخاص أو المدني في أحسن الحالات. من أين جاء إحجام النساء عن السياسة برأيك؟ هل هو مجرد تقصير، وإذا كان كذلك فما أسبابه؟ أم أن ثمة ظروف طاردة للمرأة من ميدان السياسة؟ وهل من حل لها برأيك؟
الإنسان هو حصيلة ظروفه التي يعيشها، والمرأة هي حصيلة الظروف التي تعيشها. الطفلة السورية لم ترَ طيلة حياتها امرأة سياسية سورية تتكلم بالسياسة على التلفزيون. وبالتالي أحلامها وطموحاتها سوف تنحصر بالأشكال التي تعرفها وتراها حولها. الأشخاص الذين يقرأون ويطلعون على أشياء غير التي تربوا عليها، سوف يتمكنون من الخروج عن دائرة الظروف التي أنتجتهم.
كم فرحتُ حين نجح أوباما بالانتخابات الرئاسية الأميركية. صرتُ أرقص! فراحت الناس تقول لي إنه لن يفرق عن الذين سبقوه. كنت أجيب أني لستُ فرحة من أجل أوباما أو غيره، ولكن الآن الطفل الأسود لن يحصر نفسه في أجواء الأعمال الصغيرة والخدمية والمخدرات، لأنه صار يرى وجوهاً سياسية كبيرة سوداء. هكذا سوف يكبر طموحه وشغله على نفسه، وسوف تتغير خياراته الدراسية. وينسحب الشيء نفسه على المرأة، لأنها تربى على أن أمها في المطبخ وأبوها خارج المنزل. وحين تتفرج على التلفزيون، لا ترى سوى السياسيين الرجال. وحين تُسأل ماذا تريدين أن تصبحي في المستقبل، تجيب بأنها سوف تصبح معلمة، لأنها لا تعرف مهنة غيرها. أو دكتورة، لأن أمها أخذتها إلى الدكتورة، ولو أخذتها إلى الدكتور، لما قالت إنها تريد أن تصبح دكتورة.
في الثورة صار لدينا جيل جديد يحلم. ولقد انضمت مؤخراً سياسيات إلى الساحة السياسية السورية بعد عشر سنوات من قيام الثورة، أي أن عمرهنّ كان عشر سنوات تقريباً في 2011. انخرطن بالسياسة، لأنهن رأين نساء يتكلمن في السياسة ويناضلن ويُعتقلن. للأسف نضالنا القديم كنساء لم يصل إلى الإعلام حتى يؤثر على الأجيال الجديدة. ولكن أثناء الثورة انخرطت نساء في العمل السياسي وقد كنّ صغيرات حين هبت الثورة.
لذلك أنا مع التمييز الإيجابي، ومع الكوتا. دعوا الناس ترى النساء! حتى الرجل ليس متعوداً أن يرى امرأة سياسية إلى جانبه. يحصل في الاجتماعات السياسية أن تكون المرأة هي آخر من يؤخذ برأيها، مع أنها قد تكون أفهم من ثلاثة أو أربعة أشخاص سبقوها في الحديث. ما زال الناس غير معتادين على أن تكون المرأة ناجحة في السياسة. لذلك نراها تكتفي بالعمل الخيري، لأن السياسة لم تدخل ضمن طموحها.
ركز الثوار السوريون على الشق السياسي من الثورة أكثر من أي شيء آخر، ولكننا فشلنا بإسقاط النظام السياسي رغم الخسارات والتضحيات العظيمة. هل ما زال الطريق السياسي مفتوحاً أمام السوريين؟ وكيف؟
سؤالكِ يعني هل النضال السياسي ما زال مفتوحاً! أنتِ ترين مثلي أن الطريق شائك حالياً. ولكن النضال السياسي ما زال ضرورياً بكل تأكيد من أجل فتح الأفق، لأننا نريد أن نصل إلى دولة القانون. لم يعرف السوريون على مدى خمسين عاماً ما هو القانون. هم الآن يتعرفون على القانون في أوروبا، وجميعنا نسبب فضائح هناك لأننا لا نعرف ما معنى دولة القانون. أنا مع التأكيد والتركيز على الجانب السياسي والتغيير السياسي حتى الوصول إلى دولة القانون، لأنها هي التي سوف تربينا، وتشكّلنا كشعب، وتثبّت حقوقنا كنساء ورجال وأطفال.
ولكن قد يعني سؤالكِ كذلك أن السوريين لم يشتغلوا على الشق الاجتماعي والثقافي بشكل كافٍ. برأيي أن الجانب المجتمعي ترافق مع السياسي بشكل رائع في بدايات الثورة. كانت البنات ينزلن إلى المظاهرات ويقلن للرجل: لا تفكر أنك سوف ترجعنا إلى المطبخ بعدما تظاهرنا معك! في بداية الثورة كان ثمة شغل على الجانب المجتمعي. ويدل الانفجار النسوي الحالي على أن ذلك ما زال مستمراً. صار لدينا تنظيمات نسائية ونسوية ومنظمات مجتمع مدني. ولكن الثورة سياسية بالدرجة الأولى، لأنها تريد أن تصل إلى السلطة، وتحكم، وتحقق دولة القانون.
ألا تلاحظين أن الشغل المجتمعي يقع همه الأكبر على عاتق المرأة، وخاصة أنكِ أشرت إلى الانفجار النسوي كجزء من الشق المجتمعي للثورة؟ أين الرجل من ذلك؟
أنا معك أن الجانب المجتمعي مرتبط جداً بالمرأة. المرأة هي المجتمع، والمجتمع هو المرأة. لذلك مثلما وضعت النظرية النقدية النسوية إشارات استفهام على الفكر البشري برمته، كذلك يقع على عاتق المرأة السورية أن تضع إشارات استفهام وتسائل جميع قضايا المجتمع السوري وتاريخه. نحن اللواتي سوف نعيد صياغة التاريخ، لأن تاريخنا كتبه قومجيون مؤدلجون ذكور. تقع على عاتق المرأة – إلى جانب الدور السياسي – مهام كبيرة جداً في تفكيك سلبيات المجتمع السوري.
تعيشين الآن في فرنسا. هل تمكنتِ من متابعة مسيرتكِ النضالية من موقعكِ الجديد؟
لم أعد منتمية إلى حزب منذ أواخر الثمانينات، ولكني أمارس قناعاتي عبر المشاركة بالنشاطات السياسية والكتابة. نحن الآن بعيدون عن سوريا، وليس لدينا سوى شغل المناصرة لشعبنا في الداخل الذي قمنا به هنا في باريس على مدى العشر سنوات الماضية لصالح المعتقلين والشهداء. وأنوي أن أكمل مسيرتي بالكتابة وبالبحث عن أدوات سياسية جديدة.
ماذا تقصدين بالأدوات السياسية الجديدة؟
أقصد تلك النداءات من أجل التجمع والتشبيك بين السوريين والسوريات في جميع أنحاء العالم، والتشكل كتنظيمات وشبكات جديدة، وتحديث البرامج، وإنتاج خطاب جديد. علينا جميعاً التواصل فيما بيننا، كي نعرف ما ينبغي فعله على نحو يتناسب مع المرحلة القادمة.
Leave A Comment