كتب بشار حيدر في درج:
هناك مجموعة عانت من ظلم تاريخي هائل (العبودية في اميركا والتغيير الديموغرافي القسري في فلسطين)…
باستثناءٍ وحيدٍ وهام، لم يطرأ جديد على الوضع الفلسطيني خلال المواجهات الاخيرة. فلقد تعودنا في السنوات الماضية على الانتصارات المتواصلة لفصائل المقاومة المسلحة، من حماس والجهاد وحزب الله وغيرها. وصرنا نتوقع، بينما نتابع انهيارنا الكامل هنا في لبنان والمنطقة، تحرير الاقصى في أي لحظة. أما في ما خص مواجهات القدس والضفة فليست استثنائية هي أيضًا.
المتغير الأهم هو ما حصل في اراضي الـ 48 من مواجهات غير مسبوقة بين اليهود والفلسطينيين والتي لم تحصل حتى في أحلك الظروف التي كانت تمر بها الضفة والقطاع. وهذا ليس غريبا، فمواجهات مناطق الـ ٤٨ هذه لا ترد في سياق العناوين والقضايا الفلسطينية المألوفة، كإنشاء دولة، او اقرار حق العودة، او إيقاف الاستيطان. إنما تأتي في سياق وعي أنتجه حراك مثل “بلاك لايفز ماتر” و”العدالة لجورج فلويد” في الولايات المتحدة الاميركية أكثر مما أنتجته صيحات تحرير الاقصى. ففي الحالتين هناك مجموعة عانت من ظلم تاريخي هائل (العبودية في اميركا والتغيير الديموغرافي القسري في فلسطين)، ومازالت تعاني اليوم، رغم تمتعها بحقوق المواطنة، من تمييز عميق على مختلف المستويات.
ذلك النوع من التمييز هو ما عبرت عنه سالي عابد الناشطة في”نقف معاً” خلال مظاهرة جرت مؤخراً في تل أبيب: “كمواطنة فلسطينيّة في إسرائيل، أرفض العودة إلى روتين التمييز المُمأسس، إلى عنف الشرطة والاعتقالات السياسيّة، إلى المواطَنة المحدودة. أرفض العودة إلى روتين يجعلني أخاف، وأنا في القطار، من أن أجيب عن مكالمة أمّي الهاتفيّة باللغة العربيّة. العربيّة لغتي، وهي إحدى لغات هذا المكان، وأنا لا أنوي العودة إلى روتين يخاف الناس تبعاً له من أن يتحدّثوا بها”.
يشبه ما عبرت عنه عابد الى حد كبير شعور الكثيرين من المواطنين الافرو-اميركيين (السود) في اميركا، فهم غالباً ما يعامَلون بريبة على أنهم مصدر خرق مستمر للقانون وتهديد للحياة الآمنة. جريمة قتل جورج فلويد تجسيد لتلك الريبة العنصرية الخانقة.
وكما ان نضال سود اميركا ضد التمييز لا يرجو تحريرهم او ارجاعهم الى قارتهم الأم التي أُخرجوا منها عنوةً ذات يوم (وإن ظهرت بينهم أفكار كهذه في حقبة ماضية)، فكذلك هو نضال “فلسطينيي الداخل” ضد التمييز. فهم لا يرجون تحريرهم من قبل حماس أو السلطة الفلسطينية، بل هم مطمئنون وراضون بأن أياً من ذلك لن يحصل لهم.
لكن، وبالرغم من أوجه الشبه بين كفاح السود في اميركا والفلسطينيين في أراضي الـ 48، يبقى هناك فارقان مهمان: اولاً، في حين ما زالت هناك في الولايات المتحدة غالبية او شبه غالبية غير سوداء تدعم مطالب السود وترفض التمييز العنصري ضدهم بكل اشكاله، ليست هناك غالبية يهودية في اسرائيل تلتزم بموقف مشابه تجاه المواطنين غير اليهود. لا بل على العكس، هناك اضمحلال متزايد لذلك التوجه مع تزايد حضور اليمين المتطرف والتغييرات الديموغرافية التي شهدها المجتمع اليهودي في اسرائيل خلال العشرين سنة الماضية.
ثانياً، يشترك المواطنون السود في الولايات المتحدة مع فلسطينيي الداخل في اسرائيل من حيث أنهم يعيشون في ظل حالة تمييز عنصري، وليس في ظل نظام فصل عنصري كما كان وضع السود في جنوب افريقيا، او كان وضعهم في الولايات المتحدة في ظل نظام جيم كرو ما بعد الحرب الأهلية. مع هذا يختلف اليوم وضع السود في أميركا عن وضع فلسطينيي الداخل من ناحية أخرى. فالطرف الأول يواجه حالة تمييز عنصري عامة وليس حالة عنصريةً مقوننة. أما في اسرائيل فقد تغير الأمر مع إقرار يهودية الدولة، وهو ما مأسس وقونن حالة التمييز العنصري ضد فلسطينيي الداخل.
يبقى السؤال مفتوحا حول طبيعة استجابة المجتمع اليهودي لتلك المواجه مع من يسمونهم عرب اسرائيل. هل ينتج عنها تدهور حاد ومستدام في العلاقات بين الجماعتين، ام ينتج عنها رد فعل معاكس يعيد بناء تيار معتدل وقوي داخل المجتمع اليهودي في اسرائيل يكون قادراً على التعامل بحس أكثر عدالة مع الغبن اللاحق الأقلية الفلسطينية من مواطني اسرائيل؟
من الصعب الجزم في الاجابة. لكن الواضح ان التفاؤل في هذا الجزء من العالم أصبح أقرب إلى الجنون.
Leave A Comment