كتبت الحسناء عدره في رصيف22:
نساء شبه عاريات، يتربعن في جلستهن على أرض الرخام الزلقة بفعل اختلاط المياه والصابون، تمتد يد إحداهن إلى جرن حجري ممسكة بطاسة نحاسية، ساكبة المياه الساخنة على منحنيات جسدها الذي تفتحت مساماته من فرط حرارتها، وأخريات يتراشقن بالمياه بلهو، مطلقين ضحكات عالية وسط غيوم من البخار المتصاعد، في أرجاء مقصورة مسقوفة تتخذ شكل قبة مستديرة مجوفة، هذه الصورة البصرية الحسية ما هي إلا مشهد مأخوذ من “حمام الناصري” الذي ما زال محافظاً على طابعه الأصيل، وهو حمام مخصص للنساء فقط، يقع في البزورية القريبة من سوق مدحت باشا، أحد أحياء دمشق القديمة.
مكان يعبق برائحة الماضي والأصالة
تنتعل الزبونة في قدميها “القبقاب”، وهو حذاء مصنوع من الخشب بجزء منه أو كله، يمنع الانزلاق، ويعد جزءاً أساسياً تابعاً لزي الحمام التقليدي لا يمكن الاستغناء عنه، أما حجارة الحمام فتراها خارجة من الجدران المزركشة مع سقف مقبب بشقوق كبيرة، تسمح لضوء الشمس بأن ينسكب على أجساد النساء الممددة على آرائك مرتفعة عن الأرض المبلطة، بينما تجد نوافذ زجاجية شاهقة طليت بألوان بهية، وتتدلى من جوف القبة المزركشة مصابيح للإنارة، فيما توجد درجتان مرتفعتان عن الأرض، تصلان إلى المصطبة، حيث تجلس النساء بعد أن يفرغن من الاستحمام، يحتسين المشروبات الساخنة، يتناولن الطعام ويسحبن النرجيلة بأنفاس طويلة، كما يتوسط البهو القابع في الوسط البراني بحيرة صغيرة، تتدفق من فوهتها مياه غزيرة، ويزنر جسمها بمصابيح ملونة لبث النور في الظلمة عند انقطاع التيار الكهربائي.
مراحل رحلة الاستحمام
تمر الزبونة بعدة مراحل لتنعم بحمام ممتع ومريح، بعد وضع حاجياتها عند بهو الحمام “القسم البراني أو ما يعرف بقاعة الاستقبال” لدى المعلمة، تصعد عبر درجتين مرتفعتين عن الأرض إلى القسم الداخلي، آخذة معها الطاسة النحاسية، ليفة مصنوعة من خيوط زراعية وصابونة غار.
ثم تدخل غرفة البخار لمدة 10 دقائق لفتح مسامات الجلد ونقعه بصابون الغار، إيذاناً بمرحلة التكييس التي تتولاها “المكيّسة”، حيث تقوم بفرك الجسم بكيس أسود لإزالة طبقة الجلد الميت، وبعد الانتهاء، تستحم الزبونة في غرفة فيها أجران مياه لتبدأ مرحلة مساج الزيت، وهي مرحلة غالباً تشغلها امرأة تتميز ببنية عضلية صلبة ويدين قويتين، يدهن فيها كامل الجسم بطبقة سميكة من زيوت متنوعة، مكونة من الورد والعنبر وجوز الهند والمسك، توضح سميرة “المسّاجة”: “تشتكي معظم الزبونات من آلام في الظهر والرقبة، خاصة طالبات الجامعات ومن يعملن في المكاتب، أقوم بتدليكهن جيداً بعد تمديد الزبونة على طاولة خشبية، ثم أبدأ بدهن زيوت متعددة على كامل أجسادهن، بدءاً من أصابع القدمين وصولاً للرقبة، ما يمدهن بالراحة والاسترخاء والطاقة”.
عادة ترثها البنات عن الأمهات والجدات
تستعيد أم غسان، البالغة من العمر 66 عاماً، بعينين تفيضان حنيناً، زيارتها الأولى لحمام السوق، عندما كانت في عامها السابع، حين شدتها أمها من يدها لمرافقتها في خوض تجربة الاستحمام الجماعي، الذي كان طقساً رائجاً وأساسياً في ذلك الوقت، عن هذا تقول : “أتردد إلى حمام السوق منذ 59 عاماً، حيث كانت تصحبني والدتي رحمها الله، كل يوم خميس عندما كنت طفلة في السابعة من العمر، وورثت هذه العادة منها حتى اللحظة ولم أهجرها قط، فآتي إلى هنا كل 10 أيام للاستحمام، أشعر هنا بالسعادة العارمة، وكذلك يستريح جسدي لحظة صب المياه الساخنة، فيزيل عنه كل الأوجاع، فالبخار والدفء والمياه الحارة تساعدني على الاسترخاء وإخراج السموم من داخلي، هذا لا يمكن أن يوفره حمام المنزل الذي يكون سريعاً، كما أنك تخشين من انقطاع الكهرباء في أي لحظة، بالإضافة إلى انقطاع الغاز والمازوت لتسخين المياه”.
هذا ويعد ذهاب الأم في فترة النفاس التي تلي الولادة إلى الحمام طقساً اجتماعياً متوارثاً، وإجراء صحياً على صحتها النفسية والجسدية، توضح رجوى، وهي أم حديثة لرضيعة اصطحبتها معها: “هذه تجربتي الأولى في حمام السوق، جئت برفقة حماتي بعد إلحاح مستمر منها، وذلك كون حمام السوق عادة اجتماعية قديمة تخص النفساء وضرورية لها، لقدرته على استعادة جسد المرأة لقوته وحيويته المعهودتين قبل الولادة”، كما أن المياه الدافئة تخفف من الجهد المتراكم خلال فترة الحمل الطويلة، ويشير أطباء إلى أنها تخفف آلام عملية الفتح المهبلي المصاحبة للولادة، كما أنها تهدئ البواسير، وتقلل التوتر والإجهاد المصاحبين للولادة.
“عريك في أيدي آمنة”
حماية خصوصية الزبونة أمر في غاية الأهمية في حمام السوق، وخط أحمر لا يمكن المساس به، حيث تسلم حقيبة الزبونة وما فيها من مفاتيح وأجهزة خليوية فور وصولها عتبة باب الحمام، بعد ذلك تستلمها “الناطورة” وهي امرأة تساعد الزبونة في خلع ملابسها وارتداء الماوية “المنشفة”، حيث تغطيها الأخيرة مع إبقاء الملابس الداخلية على جسدها، إذ يمنع على النساء الاستحمام عاريات بالكامل، حفاظاً على “الحشمة”، وتجنباً لحصول احتكاكات حميمية أو ممارسات “غير مقبولة” بين المستحمات، خوفاً من أن “يمس” الحمام أي شائعة جنسية أو أخبار مغرضة.
هذا ما تقوله ميساء، ويطلق عليها اسم “المعلمة” التي تتولى تنظيم شؤون إدارة الحمام والإشراف عليه، وتتابع: “أكلف إحدى العاملات هنا بالتجول بين المستحمات ومراقبتهن بعينين مفتوحتين، كيلا تحصل أي ممارسات جنسية بينهن، لذلك يبقين الملابس الداخلية على أجسادهن أثناء الاستحمام”، تعقب المعلمة مشددة: “مسؤولية حماية أعراض المستحمات وشرفهن تقع على عاتقنا، فنحرص على مصادرة الهواتف الخليوية، خوفاً من تسريب أحدها داخل الحمام وتصويرهن شبه عراة”.
أما هنادي فمترددة بتجربة الحمام الجماعي، فتشعر بالخجل إزاء تعريها أمام الأخريات، فهذه هي زيارتها الأولى التي جاءت نزولاً عند رغبة شقيقتها، عن هذا تقول: “أشعر بالحياء إذا ما خلعت ملابسي، لم اعتد أن يشاركني أحد الحمام ورؤيتي نصف عارية سوى زوجي”.
أزمة الكهرباء والتهجير أنعشتا حركة حمامات السوق
انتعشت حركة حمامات السوق وازداد عدد روادها، نتيجة تفاقم أزمة انقطاع التيار الكهربائي، فانعدمت لدى العديد من السوريين/ات سبل الاغتسال وتسخين المياه، سواء عن طريق الكهرباء بسبب انقطاعها لساعات طويلة، أو عن طريق الغاز والمازوت، المادتين المعتبرتين في عداد المفقودات، ما دفعهم إلى التوجه نحو حمام السوق كخيار اقتصادي ويتيم للعناية الشخصية، تقول رهف، وهي متزوجة، جاءت من ريف دمشق: “الكهرباء في انقطاع مستمر، تأتي وسرعان ما تنقطع، إما بسبب عطل أو تقنين مفاجئ، لدرجة أن المياه تبقى باردة على الدوام، لذلك لا يتسع لي فرصة الاستحمام، فوجدت في حمام السوق حلاً منقذاً، فهنا لا تنقطع الكهرباء والمياه ساخنة جداً وبوفرة”.
توافقها في الرأي نهى، شابة في 19 من العمر، وتزيد على ذلك بالقول: “نكاد لا نلمح الكهرباء أبداً، فهي في حالة انقطاع دائمة، حتى فرصة الاستحمام باتت نادرة، خاصة في هذا الجو البارد وانعدام جميع سبل تسخين المياه، فالغاز مفقود، وفي حال توفره فهو باهظ الثمن، لذلك صرت آتي إلى حمام السوق مرة أسبوعياً، حيث يبقي جسدي نظيفاً لعدة أيام وذلك لوفرة المياه الساخنة وفرك الجسم جيداً ما يزيل الأوساخ عنه”.
التهجير والنزوح إثر اندلاع الحرب ساهما أيضاً في إنعاش حركة حمامات السوق، خاصة بالنسبة للعائلات كبيرة العدد التي تسكن جميعها في منزل واحد، بحيث لا يتسنى لجميع أفرادها فرصة الاستحمام، لا سيما في ظروف انقطاع الكهرباء والمياه والغاز، مثل حالة أم فايز التي هُجرت مع أولادها من منزلها في بلدة عين ترما بريف دمشق، وتعيش مع أخوتها المهجرين أيضاً في بيت والدتها في الشام القديمة، تقول: “أسكن مع أولادي وزوجي في بيت والدتي بعد أن هُجرنا من بيتنا، بالإضافة إلى أخوتي، أصبح البيت يضيق بنا ولا يتسع للجميع، والأمر ينسحب على الحمام، علينا الوقوف في طابور المنزل لكي يأخذ كل فرد منا دوره في الاستحمام، خاصة في ظل انقطاع الكهرباء المتواصل”.
“الحمام نعيم الدنيا”، مقولة قديمة ترددها الشابة الثلاثينية معقبة: “سابقاً كنت أقصد حمام السوق كطقس شبه أسبوعي، أرفه فيه عن نفسي ومكان للاستجمام، كما أنه يعتبر السيران الوحيد المتاح في فصل الشتاء، أما الآن فلم أعد أستلذ بحمام المنزل، نتيجة انقطاع الكهرباء وشح طرق تسخين المياه، فآتي إلى هنا لقضاء حمام نظيف وممتع ومريح “.
البحث عن العرائس، حفلات خطوبة ورسم بالحنة
لا تقتصر حمامات سوق النساء على الاستحمام والاغتسال فقط، بل تذهب بعض العائلات السورية التقليدية والمناهضة للزيجات الحديثة إلى اتخاذ الحمام مكاناً استراتيجياً للبحث عن فتيات وطلب يدهن للزواج، لما يتيحه هذا المكان من إمكانية رؤية العازبات بدون مساحيق تجميل. تعقب ميساء، المعلمة: “كثيراً ما تأتينا نساء من حارات الميدان والشاغور وغيرها بحثاً عن مواصفات معينة لزوجة مستقبلية لأبنائهن، فيخترن الحمام كمكان للتقصي والتعارف، فيتبادلن أرقام هواتف الفتيات التي تطابق المواصفات المطلوبة للابن”.
إلى جانب الاستحمام، لحمام السوق بعد اجتماعي متوارث، حيث تقام فيه حفلات وداع عزوبية وحمام العروس، وما يرافقها من رسم بالحنة وإزالة الشعر بالماء والسكر، وتنظيف البشرة وسنفرة الجسم، وهو إجراء يقوم على تقشير الجسم بالوصفات الطبيعية لإزالة الجلد الميت من سطح البشرة، تتولى رفيقات العروس زفها لدى انتهائها من الاستحمام، تصاحبها زغاريد في عراضة شامية، كما تقوم العروس بتبديل ملابسها عدة مرات كنوع من عرض “جهاز العروس”، وهو قائمة بمستلزمات وحاجيات يشتريها الزوج كهدية بمناسبة الزفاف، وتتكون من مكياج، ملابس للخروج، ملابس منامة، ملابس داخلية وغيرها، كما تقام في الحمام الاستقبالات وأعياد الميلاد وحفلات التخرج، فيتحول بهو الحمام إلى ساحة للرقص وتمايل الأجساد بغنج ودلال، والغناء والدبكة، وسط موجة كبيرة من الزغاريد.
عن هذا تعقب الشابة لجين: “حضرت حفلة خطوبة ابنة عمي الأسبوع الماضي، فامتلأ المكان بالزغاريد والأغاني والرقص، كان الأمر مسلياً للغاية، إنها تجربة جميلة ويزيدها جمالاً أنها عادة قديمة، حيث تبقى راسخة في الذاكرة وعصية على النسيان، على خلاف الأماكن العصرية، كالمطاعم والكافيهات والصالات التي باتت مبتذلة ومملة بالرغم من حداثتها”.
مكان للاحتفاء بالجسد وليلة حميمية مع الشريك
يعد الاستحمام الجماعي في حمام السوق تجربة حسية مثيرة تمارسها المرأة في حفلة للاحتفاء بجسدها العاري المنهك، ومكافأته بساعتين من الزمن من الغنج والدلال والراحة، بعد أيام متواصلة من الإرهاق والجهد، كما أن الحمام يمهد لقضاء المرأة ليلة جنسية مع زوجها، كما تؤكد عايدة: “عقب خروجي من حمام السوق عادة ما أحظى بليلة جنسية مثيرة لا تشبه سابقاتها، حتى كاد الحمام أن يكون ملازماً لممارسة الجنس مع زوجي، تكون ليلتي مميزة و ملتهبة، أشعر بأنني متلألئة ومفعمة بالرغبة، ويشعرني بأنني مختلفة حتى وإن كنا قد مارسناه في الليلة الفائتة”.
أما سمر فتؤكد، وباقتضاب خجول: “العلاقة الجنسية في اليوم الذي تقضين يومك في حمام السوق تختلف عن بقية الأيام، فأكون أكثر ثقة بجسدي الذي يكون ناعماً وتفوح منه رائحة الزيوت العطرة، ويكون زوجي متعطشاً لممارسة الجنس معي”، تهمس قائلة: “أقابله بالأحضان والقبل وأدعوه لتذوقي وشم رائحتي التي تفوح منها الزهور، لقضاء ليلة جنسية جميلة”.
أما بالنسبة لإيمان، فالاستحمام في حمام السوق هو احتفاء سخي بأنوثتها تقول: “هو بمثابة نزهة للجسد وترفيهه والترويح عنه وتجديد الطاقة ودلاله، أشعر بأنوثة فياضة بعد إغراق جسدي بالزيوت ونزع الشعر عنه ليصبح أملساً ناعماً كبشرة الأطفال، فأخرج من هنا للقاء زوجي الذي ينتظرني بصبر وشوق لقضاء ليلة جنسية متقدة، فالعلاقة الحميمية بيننا تصبح أكثر حرارة وإشباعاً وتشعل الرغبة الجنسية وتكسر الروتين القاتل”.
المجدرة وحراق بأصبعه
للمجدرة بالبصل المقلي والحراق بأصبعه مساحة أيضاً في “حمام السوق”، لكونهما طبقين لصيقين برحلة الاستحمام، وارتبطا به كوجبتين متوارثتين في دمشق، حيث تجلب النساء بقجهن وصرر الطعام لتناوله في القسم الخارجي بعد الانتهاء من الاستحمام، حيث غالباً ما يكون لهذين الطبقين حضورهما الطاغي في هذا الطقس.
محاكاة لمسلسلات البيئة الشامية
قررت نور تجربة حمام السوق تيمناً بمسلسلات البيئة الشامية وطقوسها، حيث تأخذت محبيها في رحلة إلى حقبة زمنية لم يعيشوها غالباً، فتقول لجين تيمناً بهذا: “أتابع بنهم مسلسلات البيئة الشامية، كباب الحارة ووردة وشامية، فأغرمت بعاداتهم وطقوسهم وأحببت تقليدهم وتجربة أجواء الحمام والرحيل إلى الماضي لساعتين من الزمن، هنا أشعر وكأنني ركبت قطاراً نقلني إلى زمن قديم لم أعشه، في ظل هيمنة التكنولوجيا وضجيج الآلات المتطورة”.
Leave A Comment