ذكرنا تواتر اعتقال صحافيات في مصر بلحن الشيخ إمام في أغنيته الشهيرة “إتجمعوا العشاق في سجن القلعة اتجمعوا العشاق في باب الخلق”.
والإعلاميات اللاتي كنت يبذرن مشاريعهن بالذكريات المشتركة كصديقات مقربات حول المهنة والحياة والأمومة خارج السجن، بتن اليوم رفيقات خلف القضبان، وإن كن في زنزانات متفرقة، إلا أنهن رفيقات مرحلة جديدة أكثر قسوة بعدما سُلبت منهن الأمومة والمهنة والضحك.
بسمة مصطفى وسولافة مجدي وإسراء عبد الفتاح ومروة عرفة، صحافيتان وناشطة ومترجمة، كن صديقات مقربات قبل أن تعتقلهن قوات الأمن الواحدة تلوَ الأخرى، في فترات متقاربة خلال عام واحد. أما التهمة مشتركة فـ”الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة”. وكأن الأمن المصري صار أكثر خبرة باصطياد الفراشات، فيحرم الأمهات من صغارهنّ الذين ما زالوا في مرحلة الروضة. ثلاث أمهات (بسمة ومروة وسولافة) وثلاث فتيات صغيرات دون العشرة أعوام يختبرن على نحو مبكر ومشترك ما وصل إليه حجم قمع الحريات الصحافية في مصر في الفترة الأخيرة.
بعد اعتقال الزميلة الصحافية بسمة مصطفى (يوم 3 تشرين الأول/ أكتوبر) بعد وصولها إلى محطة قطار الأقصر لتغطية أحداث العوامية، انضمت إلى عشرات الصحافيات المعتقلات بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة، بعد تسييج النظام المصري المجال العام، لتصبح التغطية الصحافية الميدانية خطراً يزج صحافيين في السجن الاحتياطي، لأجل غير مسمى، مثلما تواجه الأربع إعلاميات تهمة الحبس الاحتياطي وتبعاتها النفسية والجسدية. فالسجن الاحتياطي لا يحدد مدة معينة لخروج السجين بل قد تحصل تجديدات متتالية إلى أجل غير مسمى، هذا السجن الذي يطلق عليه سجن المنسيين مات فيه شادي حبش منذ شهور قريبة، بعدما أدرك أنه صار منسياً.
ما تعرضت له بسمة من تتبع إلكتروني يكشف حجم المخاطر التي تواجه الصحافيين في مصر من القراصنة التابعين لأمن الدولة المصري، ومهمتهم الأساسية هي دخول حسابات الصحافيين والوصول إلى معلومات حول عملهم وحياتهم الخاصة.
حرصت بسمة مصطفى قبل اعتقالها على تغطية أحداث قضية الفيرمونت لموقع “المنصة”، القضية التى يتورط فيها أبناء رجال أعمال نافذين في الدولة باغتصاب فتاة جماعياً، داخل فندق الفيرمونت وتصويرها فيديو وصوراً بهدف التفاخر، بعدما قاموا بتخديرها وقد غابت عن الوعي. كشفت بسمة خلال تقاريرها تحويل الشهود في القضية إلى مجرمين ما يعطل سير العدالة. كما كشفت تعرض الشهود إلى فحوص شرجية مهينة، فتعرضت حسابات بسمة مصطفى إلى محاولات الاختراق الإلكتروني، لتتبعها حتى نجح الأمن في اصطيادها من محطة القطار.
ما تعرضت له بسمة من تتبع إلكتروني يكشف حجم المخاطر التي تواجه الصحافيين في مصر من القراصنة التابعين لأمن الدولة المصري، ومهمتهم الأساسية هي دخول حسابات الصحافيين والوصول إلى معلومات حول عملهم وحياتهم الخاصة. وقد رصد موقع nile phish في تقرير صادم حجم الاختراقات التي تعرضت لها الحسابات الشخصية للعاملين في بعض المؤسسات الإعلامية والحقوقية في مصر، مثل “مركز نظرة” و”مركز القاهرة” و”مركز النديم” وغيرها، وهو ما يعرض الحياة المهنية والشخصية للعاملين في المجالين الإعلامي والحقوقي في مصر لخطر بالغ.
المحامي كريم عبد الراضي أوضح لـ”درج” أن بسمة تعرضت لمحاولات اختراق حسابها أكثر من ثلاث مرات على مدار شهر، “ولا أجزم إن كان ذلك اختراقاً أمنياً، لأن الهاكرز غير معلومي الهوية، لكن لا أستبعد أن تكون الاختراقات أمنية. كما تعرضت حساباتها بعد اعتقالها لتفتيش دقيق في محادثات فايسبوك وواتساب والايمايلات وحتى صورها الشخصية. وتم توجيه ثلاثة اتهامات لها وهي الانضمام لجماعة إرهابية وسوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ونشر أخبار كاذبة واتهامات حول عملها الصحافي ومنشورات على فايسبوك”.
حضر كريم عبد الراضي التحقيق مع بسمة مصطفى كموكّل عنها، وقال: “كانت مرهقة ومضغوطة فضلت فترة طويلة من غير نوم، احتجزت ولم تأخذ أدويتها الخاصة بالأرق والاكتئاب والتحقيق معاها كان طويلاً حول مجمل عملها الصحافي وليس بسبب قضية الفيرمونت بشكل خاص”.
“ابنتنا نسيت والدتها لأنها طفلة رضيعة وانتزعت منها أمها في فترة أساسية ومروة متأثرة كثيراً لأنها لا تراها، وترفض إحضارها إلى السجن بسبب الظروف غير الآمنة على الأطفال في الزيارات
وبشأن الحبس الاحتياطي قال: “نيابة أمن الدولة تطيل غالباً منهجية استخدام الحبس الاحتياطي لفترات طويلة، على رغم أن المشرع وضع ضوابط معينة لذلك كإجراء احترازي، لكن النيابة حولت الحبس الاحتياطي لعقوبة في حد ذاته بلا ضوابط أو شروط مع توسع في نية التعسف بالمحتجزين”.
تعرضت الصحافية سولافة مجدي وزوجها حسام الصياد القابعان خلف القضبان الآن، لعملية تتبع ممنهج أيضاً ما سهل اعتقالهما، وهما يواجهان أيضاً تهم الانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة. كما يواجهان التعسّف في مسألة الحبس الاحتياطي من دون الخضوع لمحاكمة. وسولافة مجدي حصلت على ترشيح للحصول على جائزة الشجاعة الصحافية التي تمنحها المؤسسة الدولية النسائية للإعلام. كما اختارتها صحيفة “واشنطن بوست” ضمن حملة أطلقتها بالتزامن مع اليوم العالمي لحرية الصحافة لتسليط الضوء على 8 صحافيين من مناطق مختلفة من العالم يواجهون الحبس أو الاضطهاد في عملهم.
تعرضت الزميلة المترجمة مروة عرفة أيضاً للاعتقال من منزلها ومصادرة متعلقاتها الشخصية من “لابتوب” و”موبايل”. وتواجه مروة التهمة ذاتها أي الانضمام إلى جماعة إرهابية، وهي في سجن القناطر في الحبس الاحتياطي .
المترجم تامر موافي والد ابنتها قال لـ”درج”: “لم نلاحظ عملية تتبع ومراقبة لمروة قبل اعتقالها، لكن يبدو أنها كانت مراقبة بوسائل تقليدية وهو ما علمناه بعد القبض عليها، فهي كانت تخضع للمراقبة وهي لا تعلم ذلك، واختفت مروة قسرياً بعد اختطافها لمدة 15 يوماً، حتى ظهرت في قسم الدقي، ثم نقلت إلى قسم أول مدينة نصر حتى تم نقلها أخيراً إلى سجن القناطر”.
يضيف موافي: “لم نتمكن من زيارة مروة سوى مرة واحدة لمدة 20 دقيقة ولم يسمح سوى لشخص واحد بالزيارة وهو والدتها. خسرت مروة جزءاً كبيراً من وزنها داخل السجن وتعاني من مشكلات في العمود الفقري والفك وتحتاج إلى عملية عاجلة كي لا يتراكم الصديد داخل جسدها”.
وقال موافي إن مروة عرفة استنفدت مدد التجديد في حبسها الاحتياطي وما زالت تحت الاحتجاز، “ابنتنا نسيت والدتها لأنها طفلة رضيعة وانتزعت منها أمها في فترة أساسية ومروة متأثرة كثيراً لأنها لا تراها، وترفض إحضارها إلى السجن بسبب الظروف غير الآمنة على الأطفال في الزيارات” .
الناشطة إسراء عبد الفتاح إحدى أهم الداعيات إلى إضراب 6 نيسان/ أبريل 2008 الشهير اعتراضاً على الغلاء والفساد، والحاصلة على جائزةGlamour Award for The World Changer ، كانت ممنوعة من السفر قبل اعتقالها وتواجه الآن تهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية وتخضع للحبس الاحتياطي التعسفي. وإسراء كانت وصفت لـ”درج” سابقاً حجم القمع الذي تواجهه في مصر بسبب عملها السياسي. وقالت، “قرار المنع من السفر أثر بشكل كبير في حياتي. على المستوى العملي ضاعت مني منحة للسفر والدراسة في الولايات المتحدة، ثم منحة تشيفنينغ المدعومة من السفارة البريطانية، ففي الأربع سنوات الماضية ضاعت مني المنح الدراسية التي كنت أطمح لها، أنا أعمل في مجال السوشيل ميديا وحياتي المهنية تعتمد كثيراً على المنح الدراسية والتدريبية. وللأسف هذه المنح تشترط ألا يتجاوز عمر المتقدم 35 سنة، إذاً لن أنجح ربما في الحصول عليها مرة أخرى”.
ووصفت إسراء عبد الفتاح قرارات المنع من السفر بـ”الانتقامية البحتة التي تجعلني في حالة نفسية سيئة، لأنني محرومة التنقل. حتى قرار المنع من السفر قانونياً لا بد أن يحدد بمدة، لكن في حالتي هو منع لأجل غير مسمى”.
تبدو الكتابة عن أربع نساء شابات من مصر الآن أشبه بالتوثيق الضروري، كذلك الذي قامت به المخرجة المصرية تهاني راشد في فيلم “أربع نساء من مصر”، عن سيرة أربع سيدات واجهن القمع الناصري والساداتي خلف المعتقلات، وما يمكن أن تفعله النساء في خلخلة القمع وتحطيم القيود، لأنهن سيدات ناجحات ولأنهن أمهات أيضاً لا يطلبن سوى مناخ آمن يحمي الحريات لهن ولأبنائهن ولمهنتهن. أربع نساء من مصر في سجن احتياطي ربما يشاركن الآن في إعادة أحداث التاريخ، ويحرجن النظام المصري أكثر فأكثر مثلما أحرجت شاهندة مقلد ووداد متري وصافيناز كاظم وأمينة راشد، “بطلات فيلم أربع نساء من مصر”، نظام عبد الناصر والسادات القمعي.
المصدر: درج
Leave A Comment