الرجل لا يقدّم نفسه كفردٍ من جنسٍ معين، إذْ يكفيه أن يكون رجلًا تنطبقُ صفةَ الإنسانيةِ عليه وحده، أمّا المرأة فمكانتها في المجتمع أنثى لا أكثر، هي جنسٌ ثانٍ بعد الرجل. الرجل هو السلطة والمرأة هي الضلع والخاضع والتابع، المرأة هي الدنس والعار والسبية، والرجل هو الفارس والفاتح والحصن. الرجل يُكافأ ويتباهى بفحولته الجنسية، والمرأة تُختَنُ وتُقتل وتُزَوَّج وهي طفلة لإبقاء رغبتها الجنسية وجسدها قَيْد خدمة وتحكّم وليّ أمرها. وقد ساهمت فكرة تقسيم الأدوار التي إختلقها الرجل في حصر قيمة ووجود النساء في المجال الخاص المقتصرِ على الحمل والإنجاب ورعاية الأسرة، بِحجّة أنَّ هذه الأدوار تتناسب وتكوينهنّ البيولوجيّ، فيما إستحوذ هو على القوة الإقتصادية والمجال العام مُمَيِّزًا نفسه بفائضٍ من السلطة والسيطرة.
هذه المقدّمة، ربما سيعتبرها كثيرون/ات تنظيرٌ نسويٌ تناقلته نساءٌ من تياراتٍ فكريةٍ مختلفةٍ لتحليلِ أصول قمعِ وتعنيفِ النساء ومسوّغات كرههنّ ولومهنّ على واقعهنّ المهمّش. ولكن مهلًا، في كل مرّة تحاول/ين وصفَ هذه النظريات بالمبالغة، تذكّر\ي أنّه وعلى الرغم من النضالات القديمة والكبيرة للنساء، وعلى الرغم من أنهنّ إستطعنّ بفضل كفاءاتهنّ العلمية والمعرفية تحطيمَ بعضِ أبواب الفضاءات الخاصة التي كانت مغلقة ومطبقة عليهنّ لعصور والإنطلاق للمساهمة في عملية الإنتاج والبناء المجتمعي، إلًا أنّه ووفقًا لغالبية المعطيات العلمية والبحثية لن تعيش النساء في جميع أنحاء العالم لرؤية نظامٍ يوفّر لهنَّ جميع الفرص التي يتمتع بها نظرائهنّ من الرجال، ولن ترى أيٌّ مِنَّا المساواة بين الجنسين في حياتنا. إذْ وِفقًا لتقرير المنتدى الإقتصادي العالمي للعام 2019، فإنَّ ردم الفجوة بين الجنسين سيستغرقُ 257 عاماً، وهو ارتفاعٌ حادٌ مقارنةً بتقدير عام 2018 الذي بلغ 20 عامًا.
هذه المقدّمة، تتخطّى مجرّد التنظير النسوي إلى كونها وللأسف لا زالت الثقافة والعقلية السائدة لدى الغالبية العظمى في مجتمعاتنا، مهما حاولت البنية الذكورية تكذيب هذه الحقيقة والإدّعاء عكس ذلك. هي وبكلِّ بساطة توصيف مبني على حقائق وتجارب، أكثر منه عاطفي، لواقع وموقع النساء في مجتمعاتنا الحديثة والتي هي نتاج للثقافة الأبوية التي تحكّمت لقرون طويلة في مفاصل التاريخ. كذلك، فإنّ أي تغاضي عن هذا الواقع أو محاولة للتخفيف من بشاعته أو الإستخفاف بأثره، لا يُعَدّ تبرير وقوننة للعنف فقط بل هو عنفٌ بحدّ ذاته، رغم أن هذا النهج ليس بغريب على مجتمعات كرّست لسنوات ثقافة “لَوْم الضحية”، وهو مسلكٌ يعدّ من أسوأ خصال الفاشية في السلوك الإنساني بحسب وصف البروفيسور ثيودور أردونو في العام 1947. وقد حلّل الطبيب النفسي ويليام رايانو هذا الميل/ الثقافة سنة 1971، بإعتباره أيديولوجيا تُستخدم لتبرير العنصرية والظلم الإجتماعي ضد العرق الأسود في الولايات المتحدة. وبالواقع، فإن هذه الثقافة ليست عنصرية بطبيعتها فقط، بل هي الثقافة الطبقية نفسها التي تلوم الفقراء والمهمشين على أنّهم ثاروا ضد سلطات فاسدة وتجويعية وقمعية، والثقافة الأبوية نفسها التي تُسائلُ النساء الناجيات من أيّ نوع عنف وتحمّلهن مسؤولية تعرضهنّ للجرائم إن كانت جسدية أو جنسية، عبر تعييبِ لباسهنّ أو سلوكهنّ وإطلاق أحكام أخلاقية عليهنّ قد تصل في الكثير من الأحيان إلى سجنهنّ وقتلهنّ إنتصارًا لأكاذيب الشرف والعذرية والعادات والتقاليد. وفي حقبتنا هذه العديد من الأمثلة على هذا النهج، لعلّ أبرزها النساء ضحايا ما يسمى بـ”جرائم الشرف” أو الناشطات والفتيات الملاحقات والمهدّدات والمسجونات بتهمة الدفاع عن حقوقهنّ أو تجرّأهنّ على ممارسة حقوق فردية أو النساء ضحايا الإبتزاز والعنف على إختلاف أشكاله. ومردود هذه الثقافة يعود إلى رغبة متبنّيها بالإنحياز والتقرّب وكسب رضا السلطة والأقوى، والرجل السلطوي والمعتدي والعنيف مثال في مجتمعات ذكورية تغيب فيها سلطة القانون والحقوق وآليات حماية المهمشين والضعفاء.
وفي هذا الإطار، تأتي سلسلة “حوارات تمتّ إلى الواقع بكثير من الصّلة” التي أطلقها موقع “شريكة ولكن” لكي تضيء بقالبٍ فنيٍ سهلٍ على نماذج وأمثلة لحوادث عنيفة ونمطية وذكورية نعايشها يوميًا كنساء وفتيات وتكرّس الوصمة بحقّنا. هذه الحوادث والتجارب ليست سوى إنعكاس لمنظومة دعمتها خلفيات فكرية وثقافية ودينية وقانونية وإقتصادية وسياسية ومجتمعية تاريخية، بات من الملحّ تحديدها وتسميتها بالإسم وفهمها وتفكيكها وتحدّيها من أجل تحقيق تغيير جذري في واقع وحقوق النساء في المجالات كافة، حتّى لا تبقى مطالب التمتّع بالحرية والعيش بأمان والحماية من العنف حلماً بعيدَ المنالِ للأجيال اللاحقة من الفتيات.
Leave A Comment